مصطلح "الأكوان المتعددة " قد يبدو غريبا جدا و متناقضا مع أبسط قواعد المنطق للوهلة الأولى ، فالتعريف الكلاسيكى للكون هو "مجموع كل ما يوجد من مادة و طاقة و كل شىء "، و كثيرا مايتم استعمال هذا المصطلح بالتبادل مع مصطلحات الواقع ، الطبيعة ، الوجود .
فكيف يمكن أن تكون هناك نسخ متعددة من الوجود الذى يحتوى كل شىء ؟! ....و لكن حقيقة الأمر أن كلمة "كون" فى فرضيات " الأكوان المتعددة " الفيزيائية الحديثة أصبحت لا تعنى الوجود برمته بقدر ماتعنى (منطقة من الزمكان مكتفية بذاتها و تختلف قوانين و ثوابت الفيزياء الأساسية فيها عن باقى المناطق الأخرى ) ، بينما كل هذه الأكوان المتعددة تشكل ما نسميه الواقع/الطبيعة/الوجود
و لكن هذا ليس الاعتراض الوحيد الذى قد يواجه فرضيات الأكوان المتعددة المختلفة ، فبالتعريف اذا كانت هذه الأكوان الأخرى تخضع لقوانين فيزيائية مختلفة تماما عما نعرفه فى كوننا هذا ، كيف يمكننا اذا أن نتأكد من وجود هذه الأكوان تجريبيا ؟ ...المنهج العلمى قائم فى الأساس على اختبار الفرضيات المختلفة تجريبيا ، و الفرضيات التى لا ترقى لهذا المستوى يتم تجاهلها تلقائيا باعتبارها فرضيات فاشلة لا معنى لها و لا فائدة ترجى منها ..اذا أراد العلماء بكل سهولة افتراض وجود عدد ما من الأكوان المتوازية بدون دليل تجريبى ، فلن يصبح هناك فارقا اذا بين العلم التجريبى و لاهوت العصور الوسطى الا فى أن الفرضيات الفيزيائية مكتوبة بلغة الرياضيات بينما كتب اللاهوت كانت مكتوبة باللاتينية ! .
هذا الاعتراض تحديدا يأتى من قبل المؤمنين بوجود اله خالق و مصمم للكون ضبط قوانين و ثوابت الفيزياء الأساسية لتسمح بنشوء حياة عاقلة فى الكون مثل (البشر على كوكب الأرض) ، و هذه الحجة (الضبط الدقيق للكون ) يعتبرها الكثيرون أقوى حجة أفرزتها الكشوفات العلمية حتى اللحظة لتأييد وجود خالق ما للكون ، بينما فرضيات الأكوان المتعددة لو ثبت صحتها ستقضى عليها نهائيا باعتبار أن هناك عدد لانهائى / أو عدد نهائى لكن ضخم للغاية من الأكوان المتوازية تخضع لثوابت و قوانين فيزيائية مختلفة ، و نحن بالتالى تطورنا لنتكيف مع الكون و ليس العكس فالكون لم يتم تصميمه من أجلنا
كل هذه الاعتراضات و اعتراضات أخرى على فرضيات " الأكوان المتعددة" تجعل المرء يتعجب أكثر عندما يصل الى علمه أن كثيرين من ألمع الفيزيائيين فى عصرنا هذا من أشد مؤيديها ( كأمثلة شهيرة : ستيفن هوكنغ ، ليونارد سسكند ، برايان جرين ، ستيفن واينبرغ ) ، فما القصة تحديدا وراء هذه الفكرة ؟ و ماهى أبرز فرضيات الأكوان المتعددة ؟ و هل يمكن فعليا اختبارها تجريبيا أم أنها ستظل مجرد فرضيات نظرية ؟ و ماهى النتائج المترتبة عليهافلسفيا و علميا فى حالة ثبوت صحتها ؟
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* مقدمة :
نحن الأن فى العام 1543 ، لربما أهم عام مر على البشرية فى سنواتها المائتى ألف فهذه هى بداية أهم حدث بشرى فى التاريخ (الثورة العلمية ) فى أوروبا التى ستسهم فيمابعد فى بداية عصور التنوير و العلمنة و الثورة الصناعية الأوروبية و سيادة الحضارة الغربية على كافة أنحاء كوكب الأرض من جانب و من جانب أخر ستراكم أكبر قدر ممكن من المعرفة البشرية المبنية على الأدلة التجريبية و ليس التأملات النظرية (يكفى أن نعرف أن المعرفة البشرية زادت فى القرن العشرين بمفرده حوالى 20 ضعف ما تراكم من أيام اختراع السومريين للكتابة و بداية التاريخ المدون قبل 6 آلاف عام الى ماقبل الثورة العلمية فى القرن السادس عشر ) ، كانت البداية مع كتاب (عن دوران الأجرام السماوية) لنيكولاس كوبرنيكوس "عالم الفلك البولندى " الذى طرح فيه نظرية مركزية الشمس بدلا من الأرض فى المجموعة الشمسية .
ما كتبه (كوبرنيكوس) غير نظرة البشرية للكون الى الأبد و كان ايذانا ببداية عصر العلم بعد آلاف السنين من سيادة الفكر الغيبى الدينى ، رغم أن (كوبرنيكوس ) لم يكن أول من صاغ نظرية (مركزية الشمس) فقد سبقه اليها عالم الفلك و الرياضيات الاغريقى (أرسطارخوس الساموزى) قبل حوالى 1700 عام و لكن تم تجاهلها و الأخذ بالنموذج البطليموسى الذى جعل من الأرض مركزا للكون و دعمته الكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا فيمابعد و حتى قبل به العالم الاسلامى طوال العصور الوسطى ، و من ثم جاء (كوبرنيكوس) و من بعده (جاليليو) ليقلبا كل شىء رأسا على عقب .
منذ الثورة الكوبرنيكية فى علم الفلك و تغير مركز الكون من كوكب الأرض الذى يضم البشرية الى الشمس ، توالت الاكتشافات التى تحطم أى وهم متعلق بموقع الانسان المتميز فى الكون ، فاكتشفنا بعد ذلك وجود عشرات المليارات من النجوم فى مجرة درب التبانة بخلاف نجم الشمس ، و كثير من هذه النجوم تدور حولها كواكب ..ثم جاء الفلكى الأمريكى (ادوين هابل) ليثبت وجود مجرات أخرى بخلاف مجرة (درب التبانة) و أنها بأعداد تفوق عشرات المليارات ...و هكذا فنحن البشر نعيش على كوكب هامشى يدور حول نجم هامشى -من بين حوالى مائة مليار نجم أخر فى المجرة - يدور حول مركز مجرة هامشية - من بين حوالى مائة مليار مجرة أخرى - و كل هذا لا يمثل سوى 4% فقط من الكون المرئى بينما الباقى مكونات لا نعلم طبيعتها حتى اللحظة : المادة المظلمة ، الطاقة المظلمة ..
و من ثم تساءل بعض العلماء و الفلاسفة: ما الذى يمنع أن يكون هذا النمط الكوبرنيكى مستمرا حتى النهاية ؟ ما الذى يمنع من وجود مناطق اخرى من الزمكان " أكوان أخرى " بها قوانين و ثوابت فيزيائية مختلفة عن الكون الذى نعيش فيه بنفس المنطق الذى توجد به مليارات الكواكب و النجوم و المجرات الأخرى ؟ ..أليست كل المشاهدات التجريبية حتى الأن تدعم وجود مثل النمط ؟
و لكن هذه التساؤلات الفلسفية لم تكن كافية بالطبع لطرح فرضيات فيزيائية جادة تتعلق بوجود أكوان أخرى بخلاف كوننا ، لكن بداية من ثمانينات القرن العشرين صار ملحوظا بشدة فى المجتمع العلمى أن تقريبا معظم النظريات الفيزيائية الحالية و التى تصف مشاهدات تجريبية فعلية تقترح وجود نوعا ما من فرضيات الأكوان المتعددة ، ينطبق هذا على فيزياء الكوانتم التى تصف سلوك الجسيمات ماتحت الذرية ، كما ينطبق على نموذج الانتفاخ الذى يفسر بعض المشاهدات التجريبية الغامضة فى نظرية البيج بانج و علم الكونيات ، و حتى النظريات الفيزيائية الحديثة التى تهدف الى توحيد النسبية العامة لأينشتاين مع الفيزياء الكوانتية مثل نظريات الاوتار الفائقة و النظرية ام أيضا لها نماذجها المتعلقة بالأكوان المتعددة .
فالفيزيائيون لم يطرحوا مثل هذه الفرضيات من قبيل التسلية فى أوقات الفراغ ، و لكن من واقع نظريات فيزيائية قائمة فعليا لتفسير مشاهدات تجريبية مثبتة .
* أهم فرضيات الأكوان المتعددة الحالية حسبما طرحها الفيزيائى الأمريكى (برايان جرين ) فى كتابه الأخير الصادر هذا العام 2011
سأقوم بعرض مختصر لهذه الفرضيات ، و من ثم التطرق اليها بشكل أكثر تفصيلا :
1- الكون المتعدد المبطن Quilted Multiverse :
و ينطلق من فرضية بسيطة جدا و يعتقد بصحتها معظم علماء الكونيات حاليا و ان لم يتم اثباتها تجريبيا بشكل نهائى بعد ، فرضية أن الكون لانهائى فى امتداده
2- الكون المتعدد الانتفاخى Iflationary Multiverse :
يعتمد على نموذج التمدد الانتفاخى الأزلى فى نظرية البيج بانج لتفسير تطور الكون
3- الكون المتعدد البرانى Brane Multiverse :
ينطلق من نظريةالأوتار الفائقة / النظرية ام
4- الكون المتعدد الدورى Cyclic Multiverse :
ينطلق من نظرية الأوتار الفائقة أيضا
5- كون متعدد ينطلق من مزج نظرية الاوتار مع نموذج التمدد الانتفاخى / Landscape Multiverse :
6- الكون المتعدد الكوانتى Quantum Multiverse :
ينطلق من الطبيعة الاحتمالية للجسيمات ماتحت الذرية فى الفيزياء الكوانتية ، و أول من طرح هذه الفكرة كان الفيزيائى الأمريكى ( هيو ايفيرت ) فى خمسينات القرن الماضى
7- الكون المتعدد الهولوجرامى Holographic Multiverse :
8- الكون المتعدد المعتمد على المحاكاة التقنية Simulated Multiverse :
9- الكون المتعدد المطلق Ultimate Multiverse :
ينطلق من الافتراض القديم بأن الرياضيات/ النماذج الرياضية لا تصف الطبيعة ، بل الرياضيات هى الطبيعة النهائية للواقع ذاته فكل كون ممكن منطقيا/رياضيا موجود
المصادر *
The Hidden Reality: Parallel Universes and the Deep Laws of the Cosmos, by Brian Greene.
Universe or Multiverse? Edited by: Bernard Carr.