النموذج التركي و انتفاضة ميدان تقسيم .. ماذا يجرى فى تركيا ؟

الساعات الاخيرة من مايو 2013 حملت مفاجأة من العيار الثقيل ، اشتباكات بين محتجين و الشرطة فى اسطنبول ، و على ضوء هذا الانفجار الجارى حتى لحظة كتابة تلك السطور ، اشتعل الجدال المزمن حول شخصية رجب طيب اردوجان و النموذج التركي .
و كان اعجب ما انجبت العقلية العربية الاصيلة فى هذا التوقيت ، ان تجد من يخرج علينا بالقول ان اردوجان لا يحتسب على ما يطلقون عليه المشروع الاسلامي ، و انه و حزبه ينتمون الى المعسكر العلماني ، و ان نسبة العلمانين فى الحزب تبلغ كيت و كيت ، و كنت اتصور ان مثل هذا الكلام مكانه ما قبل الصعود الاسلامي على اكتاف الربيع العربي، و لكن ان نجد من يردد هذا الكلام بينما نموذج ثورية محمد مرسي و علمانية ابو الفتوح موجود بيننا فهذا مؤشر خطير على ان هنالك من لم يستوعب بعد حقيقة الخدعة التى تمر بها بلادنا حتى اليوم .
و لكن لنعد الى سيرة اردوجان ، و لنتتبع خطاه ، فالرجل كان تابعا ً لزعيم من زعماء الاسلام السياسي هو نجم الدين اربكان ، و الاخير اسس حزب النظام الوطني ، و كان ذو توجه اسلامي واضح ، و عقب تسعة اشهر من تأسيس الحزب اصدرت المحكمة الدستورية بإيعاز من الجيش قرار بحل الحزب ، ثم اسس حزب السلامة الوطني و ظفر بحصة فى البرلمان و فى الوزارة و اصبح نائبا ً لرئيس الوزارة التركية ، و ظهر نهجه الاسلامي واضحا ً فى البرلمان و الوزارة ، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان بسبب ما اعتبر سياسته المؤيدة لإسرائيل.
و عقب خروجه من الوزارة بفترة بسيطة قدم حزب أربكان مشروع قانون إلى مجلس النواب عام 1980 يدعو الحكومة إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، كانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر .. و بعد بضعة أيام فحسب تزعم قائد الجيش كنعان إيفرين انقلابا عسكريا حل على اثره جميع الاحزاب ، و لم يكن مقصودا ً الا حزب اربكان ، و لم يكن مقصودا ً بهذا الانقلاب الا قطع الطريق امام الصعود الاسلامي بزعامة اربكان الذى زج به العسكر فى السجن .
عقب عودة الحياة الحزبية فى تركيا عام 1983 ، و خروج اربكان من المعتقل ، و اسس حزب الرفاه ، و ظفر عام 1996 برئاسة الوزارة التركية .
فعل اربكان تماما ً كما فعل الاسلاميين فى مصر عقب يونيو 2012 ، اسفر عن وجها ً متطرفا ً ، و ان كان اربكان لم يقم باخفاء هذا الوجه يوما ً ، و توجه الى ايران بشكل فورى و سريع الى درجة جعلت البعض يتشكك فى طبيعة علاقته مع طهران ، و هنا بدأت المؤسسة العسكرية التركية فى التحرك ضد اربكان ، فطلبت منه عددا ً من القوانين التى تتفق مع الدستور و لكنها ضد نهجه السياسي ، و كان رفضه يعني انقلابا ً عسكريا ً على حكمه .
لجأ اربكان الى حيلة ذكية ، قدم استقالته من رئاسة الوزراء فاسقط فى يد العسكر ، لم يعد هنالك سببا ً يدعوهم لنزول الجيش ، و لكن ذراعهم القضائى نكل باربكان عبر حل حزب الرفاه و و حظر عمل اربكان بالسياسة لمدة خمس سنوات ، فاسس حزب الفضيلة و اسند رئاسته لمساعده ، و لكن المحكمة الدستورية التركية حظرت الحزب ، و فى عام 2003 اسس اربكان حزب السعادة ، فجرى تلفيق تهمة اختلاس اموال و حكم بالسجن عامين ، و فى عام 2008 اصدر الرئيس عبد الله جول عفوا ً رئاسيا ً عن استاذه ، و فى 27 فبراير 2011 توفى اربكان عن 84 عاما ً .
كان اردوجان و جول اعضاء فى حزب الخلاص الوطني ، تلاميذ اربكان ، و عادوا معه فى حزب الرفاه ، و ظفر اردوجان بمنصب عمدة اسطنبول ، و كان خطابه اسلاميا ً عتيداً ، و لكن اتى عام 1998 و اردوجان فى السجن ، اذ اتهُم بالتحريض على الكراهية الدينية بسبب اقتباسه أبياتاً من شعر تركي أثناء خطاب جماهيري يقول فيه:
مساجدنا ثكناتنا
قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا
والمصلون جنودنا
هذا الجيش المقدس يحرس ديننا
خرج من السجن ، و فى ذلك الوقت كان عبد الله جول يخوض معركة سياسية ضد زملائه فى حزب الفضيلة ، و لما خسرها بسبب خلافه الفكرى مع اربكان ، اسس مع اردوجان حزب العدالة و التنمية .
من اجل تلافى الحل عبر القضاء ، و مضايقات المؤسسة العسكرية ، كان لابد من تعديل الخطاب السياسي ، و عدم الصراخ باسم الرب فى كل كبيرة و صغيرة ، أراد أردوغان أن يدفع عن نفسه أي شبهة باستمرار الصلة الفكرية مع أربكان وتياره الإسلامي الذي أغضب المؤسسات العلمانية مرات عدة، فأعلن أن العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في صراعات مع المؤسسة العسكرية وقال "سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا".
من اجل المظهر العلماني ، استقدم اردوجان و جول عددا ً من المفكرين اليساريين و الليبرالين المحسوبين على الفكر العلماني ، تماما ً كما فعل حزب الحرية و العدالة المصرية حينما اتى بمسيحي نائبا ً لرئيس الحزب ، او قيام الحزب بترشيح بعض الشخصيات الليبرالية او المسيحية على قوائمه فى الانتخابات البرلمانية التى عقدت ما بين عامي 2011 و 2012 .
علمانية اردوجان هي ذاتها علمانية ابو الفتوح الذى اختلف مع رجالات الجماعة الام فخرج فخطاب استعار شعارته من البرادعي ، ثم تدثر بعباءة ايمن نور البرتقالية ، و لملم حوله مفكرة اشتراكية و بعض النخب الليبرالية ، قبل ان يستقدم بعض الشباب الثورى الليبرالي ، و الذى و يا للمفارقة اغلبه اساسا ً خارج من العباءة الاخوانية مثل ابو الفتوةح .
علمانيو اردوجان هم علمانية "انا مش اخوان بس بحترمهم" ، و ليبرالية "مرسي منتخب و يجب ان يكمل دورته للنهاية" و مسيحيو "حزب الحرية و العدالة" واصلاحيو "جماعة الاخوان المسلمين" ، كلها فرق ضحك عليها الاسلامين من اجل الظهر بمظهر ديموقراطي ليبرالى علماني ، و بعض هذه الفرق ، سواء فى تركيا او مصر ، تعرف ذلك و قبضت الثمن فى صفقات واضحة و صريحة.
لذا فأن علمانية اردوجان كذبة هزيلة ، تفضحها افتخار التيار الاسلامي بصعوده وخطواته منذ عشر سنوات على الاقل ، يفضحه خطابه الديني الواضح و الصريح ، واتساقه الفكري و الفعلى مع اربكان و كل زعيم من ما يطلق عليه الاسلام السياسي .
.........
.........
حينما صعد اردوجان لسدة الحكم فى تركيا ، كان موقفه مختلف عن اربكان ، اربكان يرى التكامل مع ايران ، اردوجان يرى ان تركيا يجب ان تنافس ايران و ان تكون هى زعيمة هذا المعسكر ، وجد الغرب من داخل الاسلام منافس لايران ، و مناوئ لصعودها القوي فى الشرق الاوسط ، و لم يخيب اردوجان ظن الغرب به ، و اتضح جليا ً خلال الربيع العربي و جهوده الاسطورية لازاحة بشار الاسد و اسقاط سوريا كما كان رهان الغرب على الاسلامي التركي مكسبا ً كبيرا ً لمشروع الشرق الاوسط الكبير .
تعج وثائق ويكليكس بما هو يكشف وجه اردوجان ، نشرت بعضها ً منها فى كتاب الحرب السرية ، و كيف ان تركيا ساعدت الغرب فى الكشف عن معدات نووية يتم تهريبها الى ايران
و لعل ابرز وثائق ويكليكس عبر اردوجان ، الوثيقة رقم (04ANKARA7211) بتاريخ 30 ديسمبر 2004 ، تكشف ملفات فساد لوزراء فى حكومة اردوجان ، و ان الاخير يمتلك 8 حسابات مصرفية سرية فى سويسرا بالاضافة الى علامات استفهام حول مصاريف تعليم ابنائه الاربعة فى امريكا ، الوثيقة تشير الى "عطش أردوغان للسلطة ينعكس في النموذج السلطوي وانعدام الثقة بالآخرين" ، و الى الخلافات الكبرى بين اردوجان ووزير خارجيته – وقتذاك – عبد الله جول وسعى اردوجان الى تقليم اظافر جول داخل مجلس وزرائه .
فى ديسمبر 2010 حينما نشرت تلك الوثيقة على الموقع الشهير ، اشارت صحيفة ميلليت الى ان اموال اردوجان المهربة ما هى الا عمولته عن بيع شركة مصفاة النفط توبراش لروسيا بمبلغ ضئيل مقارنة بحجم اعمال الشركة الحكومية في إشارة إلي تعمد الحكومة البيع بأسعار تقل عن الاسعار الحقيقية ، و فى الاول من ديسمبر 2010 خصص اردوجان خطابه للرد على ويكيلكس ، حيث حقن خطابه بعبارات و اكلاشيهات ذات رنين ديني من اجل اللعب بمشاعر شعبه ، فبدأ خطابه قائلا ً "ليس لي أدني شك في وضوئي فكيف يكون هناك شك في صلاتي" .. ثم بعد بضعة ايام اندلع الربيع العربي فى تونس ثم مصر .. و نسى الاتراك قبل غيرهم هذه الوثيقة .
.........
.........
بعيدا ً عن ذمة اردوجان المالية و مدى نظافة حكمه ، لنذهب الى طبيعة تجربته الاقتصادية التى يهلل لها الجميع ، اردوجان ارتمي فى حضن صندوق النقد الدولي ، و نفذ كل مطالبهم ، و كانت النتيجة ان الاقتصاد التركي اصبح رقم 16 على العالم ، انه النجاح الباهر .. و لكن تركيا تحتل المرتبة الـ83 من أصل 169 دولة من حيث نوعيّة حياة المواطنين ورفاهيتهم، والـ58 على مستوى دول العالم من حيث الدخل الفردي بالتالي، فإن حقيقة احتلال تركيا المرتبة الاقتصادية الـ16 في العالم لا تعني شيئاً بالنسبة إلى المواطنين الذين لا يشعرون بأي تأثير إيجابي لهذه الأرقام على حياتهم اليومية.
انجازات اردوجان لا يشعر بها الا طبقة رأسمالية فحسب ، تماما ً مثل الانجازات الاقتصادية التى تحدث عنها صندوق النقد الدولي لحكومات عاطف عبيد و احمد نظيف ، و التى لم يشعر بها الا رأسماليو الحزب الوطني فحسب .
لذا لا عجب ان يكون هنالك اضطرابات او تظاهرات ضد اردوجان ، و هذه ليست المرة الاولي ، و لكن و كما رأينا فى مصر ، دائما ً التظاهرات ضد زعماء التيار الاسلامي هى تظاهرات ضد الله ، و سعيا ً للخمر و الزنا و الاعتصامات دائما ً و ابدا ً من اجل الدعارة و الزنا و الشذوذ ، اذ اتت التظاهرات هذه المرة بالتزامن مع قرار اردوجان بمنع "تعاطي الخمور فى الامكان العامة من العاشرة مساء الى السادسة صباحا ً" ، لم يتم منع بيع الخمور او تجريم شربها كما يدعى ابناء التيار المتأسلم .
.........
.........
عقب ساعات من بدء التظاهرات فى ميدان تقسيم فى اسطنبول ، اندلعت تظاهرات فى ازمير و انقرة ( العاصمة ) و غيرها من المدن التركية ، كلها تطالب باستقالة رئيس الوزارة بسبب الاقتصاد المتردي ، و انضم للتظاهرات النقابات العمالية و اليمين القومي ، فهل كل هؤلاء عاشقى خمور ؟
لذا فأن ما يجرى فى تركيا اليوم هو انتفاضة/ثورة شعبية ، متوقعة جدا ً على ضوء الارقام الهزلية الحقيقية للاقتصاد التركي ، ثورة انتظرها البعض على ضوء الانتخابات البرلمانية التركية العام المنصرم ، ولكنها تأخرت عاما ً كاملا ً ، و كانت ضربة البداية عنف الشرطة المبالغ فيه حيال ثوار ميدان تقسيم
اهم ما فى هذه التظاهرات هو فضح و كسر اسطورة النموذج التركي ، عبر 20 ساعة من البث المباشر من ميدان تقسيم يوم الثلاثاء 11 يونيو 2013 ، يوم اقتحمت الشرطة الميدان طيلة 20 ساعة ، و صمود الثوار و استطاعتهم البقاء فى حديقة جيزى خلال تلك الفترة.
ختاما ً .. مما يؤسف له ان نرى الكثير من الصحفيين و المراكز البحثية و قد وقعت فى شباك خدعة علمانية اردوجان ، و ليبرالية حزبه ، و سعي المتظاهرين لحرية معاقرة الخمر ، للاسف لا يزال هنالك ما لا يمكن تسميتهم الا بالمغفلين الذين سوف يدعمون علمانيو الاخوان المسلمين فى الجولات المقبلة ما لم تحدث معجزة و يفهم القائمون على الدولة المصرية حقيقة الخدعة التى تسمي ديموقراطية لشعب نصفه اسفل خط الفقر و الجهل و المرض .