التاريخ و الطبيعة لا يسلمان بمفاهيمنا عن الخير و الشر ،و هما يعرفان الخير بأنه ما يبقى و الشر بأنه ما ينزل الى أسفل ،و ليس للكون أى هوى فى صف المسيح و ضد جنكيز خان
(ويل ديورانت )
هل يوجد بالفعل معنى للحياة ؟ و هل هناك هدف ما ورائها ؟ و كيف يجب على البشر أن يعيشوها ؟ و ما هو تعريف الخير و الشر ؟و ما هو المعيار الأخلاقى الذى نستمد منه قيمنا ؟
كل هذه الأسئلة قديمة قدم الوجود الإنسانى ذاته ، و قامت عشرات الأديان و الفلسفات على مر العصور بإعطاء اجابات لهذه الأسئلة وفرض قيم عليا يفترض بالإنسان أن يعيش وفقا لها ،و قد كانت فى الغالب إجابات متناقضة فى ذاتها و لكنها كانت بالتأكيد مريحة لمليارات البشر الذين أمنوا بها ايمانا عميقا لدرجة أن كثيرا منهم ضحوا بحيواتهم من أجل هذه الفلسفات و المؤسسات المصطنعة كالأديان أو القوميات أو الأوطان أو الأيديولوجيات المختلفة ...
بالتأكيد لن أتعرض هنا لكل الفلسفات التى ابتكرها الجنس البشرى على مدى تاريخه الطويل ، و لكن فلسفتين فقط لاغير : الداروينية الإجتماعية و الإنسانوية.
الإنسانوية باختصار هى فلسفة تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شي، حيث بدأت مع عصر النهضة ثم عصور التنوير و العقلانية فى أوروبا و برزت كموجة فكرية تناضل ضد التصور القديم للعالم و ضد التدين المحافظ و ضد الفلسفة الجامدة و ضد التقاليد الجماعية الموروثة وتنتصر إلى الفردانية والروح التحررية والى الآداب الإنسانية والفنون ، و الاهتمام بالإنسان من جهة الدراسة والتعظيم فأعلت من شأنه كثيرا حيث اعتبرت أن الانسان هو أعلى قيمة في الكون وأفضل الكائنات وآمنت بأن معيار التقويم هو الإنسان لأنه مقياس جميع الأشياء.
بينما تفترض الداروينية الاجتماعية أن الأفراد داخل المجتمع يتنافسون من أجل البقاء و أنه لا قيمة للانسان فى ذاته بل هو كغيره من الكائنات الحية يسرى عليه نفس القوانين الطبيعية ، وأن المتفوقين من الأفراد والمجموعات والسلالات يصبحون ذوي نفوذ وثراء ، ويؤكد الداروينيون الاجتماعيون أن الأفراد الذين باستطاعتهم البقاء بشكل أفضل يثبتون مقدرتهم تلك عن طريق تكديس الممتلكات والثروة والمركز الاجتماعي. ووفقًا للداروينية الاجتماعية، فإن الفقر أو التخلف دليل على عدم كفاءة الفرد أو المجموعة.
شخصيا أجد أن الداروينية الاجتماعية و ان كانت تبدو قاسية باردة بلا رحمة لنا -نحن أبناء القرن الحادى و العشرين و قيم الاعلان العالمى لحقوق الانسان و منظمات المجتمع المدنى المعنية بها - أقرب الى الحقيقة بكثير من الفكر الانسانى الذى لا يقدم شيئا واقعيا سوى مخاطبة النزعة المثالية التى تسيطر على بعض الحالمين من البشر ،فالإنسان بداية ليس حرا فهو محكوم بواسطة مجموعة من الدوافع الغرائزية والجينات الوراثية والعلاقات الإجتماعية ،و لا يحمل أى قيمة اضافية الا بمقدار ما يستطيع أن يفهمه عن العالم المحيط به و ما يستطيع أن ينجزه بناء على هذا الفهم من تحكم فى الطبيعة و استغلالها لتكون فى خدمته .
إذا تتبعنا التطور الأخلاقى للجنس البشرى خلال ال50 ألف عاما الماضية ، فيمكن تقسيمه لثلاثة مراحل رئيسية :
أولا مرحلة الصيد و الجمع :
و هى المرحلة التى تمتد من بداية ظهور الانسان الحديث تشريحيا (الهوموسابينز ) فى غابات افريقيا جنوب الصحراء قبل حوالى 50 ألف عام بعد تطوره حتى إكتشاف الزراعة ، و هى مرحلة كان كل انسان فيها على استعداد للمطاردة و القتال و القتل فى وقت كان مقياس البقاء فيه هو القدرة على القتل ،و أغلب الظن أن كل رذائل عصرنا من قتل و اغتصاب و سرقة و قسوة و طمع و شراسة ........الخ كانت مزايا فى رحلة الصراع من أجل البقاء .
ثانيا مرحلة الزراعة قبل 10 آلاف عام :
بعد اكتشاف الزراعة و بداية تشكيل المدن و القرى ثم الدول فيما بعد ، أصبح هناك قانون أخلاقى جديد فالسلام هنا أربح من الحرب ، و الاجتهاد فى العمل أهم من الشجاعة فى الحروب ، و ضبط النفس أفضل من استخدام العنف المفرط مما أدى الى الاعلاء من قيمة الجماعة و الزواج المبكر و فضيلة العفة الجنسية لدى النساء .
ثالثا المرحلة الصناعية قبل حوالى 250 عام:
غيرت الثورة الصناعية نمط الحياة للمواطن الغربى ( أوروبا و أمريكا الشمالية ) على وجه الخصوص ، فنحن فى الشرق لم نصبح مجتمعات صناعية تماما مثلهم بعد
أعلت الثورة الصناعية من قيمة الفردانية فكل شخص يعمل على آلة بمفرده ،و مع تزايد التعقيد التقنى و تأخر سن الزواج ، سكن معظم الناس فى المدن مما أدى الى تحرير ممارسة الجنس. و بعد ازدهار الحركات التحررية النسائية و اختراع تقنيات حديثة كحبوب منع الحمل أصبح من الممكن ممارسة الجنس بدون زواج و بدون حمل أيضا ، فانهارت سلطة الأب و الأم التقليدية (الأسرة ) و بتقدم العلم و الصناعة "التى تقوم فى الأساس على آلات ميكانيكية "تراجع دور الدين التقليدى أيضا و ظهرت فلسفات جديدة ميكانيكية مادية أيضا كالاشتراكية العلمية مثلا (على يد ماركس و انجلز
مما سبق يتضح لنا أن الأخلاق كمنظومة مجتمعية وليدة ظروف اقتصادية و اجتماعية معينة و ليست نظم مثالية فى عقل أحد الحالمين يرغب فى تحقيقها .
بالتأكيد تواجه العلوم و النظريات الإجتماعية بشكل عام (متضمنة الداروينية الإجتماعية بالطبع ) مشكلة أنها ليست علما تجريبيا حياديا تماما بالمعنى المفهوم للعلوم الطبيعية كالفيزياء و الكيمياء و البيولوجى ،و لكن فى حالة الداروينية الإجتماعية تحديدا فهى تستند الى نظرية علمية هى أقوى النظريات التى غيرت نظرة البشرية الى الأبد للطبيعة و كيفية عملها (نظرية داروين فى التطور و آلية الانتخاب الطبيعى باعتبارها المحرك الرئيسى لها و هى آلية عمياء و ليست قوة عاقلة ) ، وظاهرة التطور (تطور كل الكائنات الحية على ظهر كوكب الأرض من سلف واحد مشترك عاش من 3.5 مليار سنة ) و هى حقيقة مثبتة علمية تماما كحقيقة دوران الأرض حول الشمس .
و باعتبار أن الانسان كائن بيولوجى فى الأساس مثل باقى الكائنات الحية فيمكن اعتبار العلوم الاجتماعية فروع هامشية لعلم البيولوجى ، و قد تأسست علوم جادة فعلا فى القرن الماضى بناء على هذا الفرض مثل علم النفس التطورى و علم الأقتصاد التطورى....الخ ، المحاولة الأشهر لتفسير الظاهرة الثقافية الانسانية عن طريق آلية الانتخاب الثقافى( بواسطة الميمات التى تلعب دورا مماثلا لدور الجينات فى التطور البيولوجى ،و تم تقديم هذا الطرح لأول مرة فى كتاب ريتشارد دوكنز الشهير : الجين الأنانى.
بل إن الداروينية ممثلة فى التطور و آلية الانتخاب الطبيعى لم تكتفى بعلم البيولوجى و العلوم الاجتماعية ، فتقدمت الى أكثر العلوم أساسية (علم الفيزياء ) و هو العلم الذى يمكن اختزال كل العلوم الأخرى اليه باعتباره يبحث فى العلاقات و القوانين الاساسية التى تحكم كل شىء فى الوجود ، فنجد فرضية العالم الفيزيائى (لى سمولين ) عن الانتخاب الطبيعى للأكوان
Cosmological natural selection فى اطار نظرية الأكوان المتعددة (Multiverse )
و هى بالتأكيد لم تتبلور كنظرية علمية مثبتة بعد لإنعدام المشاهدات التجريبية التى يمكن بواسطتها اختبار النظرية ( و هو الشرط الأساسى فى العلم الحديث ) حتى و لو كانت ذات بناء رياضى محكم ،لكنها تفتح الطريق أمامنا الى فهم متكامل و علمى للوجود بأسره .
يجدر هنا الاشارة بأن عالم البيولوجى الفذ (ريتشارد دوكنز) رغم أن معظم كتبه تقريبا عن نظرية التطور ، و أنه ملحد تماما (بل أشهر الملحدين على كوكب الأرض على الاطلاق ) فهو يكره (الداروينية الاجتماعية) تماما كما صرح فى حلقة وثائقية باسم (عبقرية داروين ) فى عبارة شعرية تليق بأحد الرهبان البوذيين أكثر من عالم البيولوجى : " نحن -البشر - بمفردنا على هذا الكوكب تطورنا بما فيه الكفاية لنفهم آلية عمل الجينات الأنانية التى شكلتنا ، و لكنها ليست نموذج للطريقة التى يجب علينا التصرف بها بل على العكس فنحن نملك الوعى و الادراك الكافى لنتغلب عليها .فبواسطة الأخلاق الطيبة و العلم الحديث و الأعمال الخيرية و حتى دفع الضرائب يمكننا التغلب على ميراث الطغيان الممثل فى الانتخاب الطبيعى"
و لكن بغض النظر عما يمكن أن يقوله دوكنز -رغم تقديرى له كعالم بيولوجى عظيم - أو غيره من الإنسانيين ( و هم فى الغالب لادينيون ) ، أو ضرب الأمثلة القليلة من التاريخ البشرى عن الشخصيات المسالمة كالملك البوذى (أشوكا ) الذى ترك الحروب التوسعية و اكتفى بمملكته بعد اعتناقه للبوذية أو (غاندى) و حركة المقاومة السلمية التى دعا اليها ، فتاريخنا البيولوجى و حتى التاريخ المكتوب على مدى أكثر من ستة ألاف عام يقفان بعنف ضد هذا الكلام .
فاذا تأمل الشخص مثلا الشخصيات التاريخية -و التى يعتبرها الكثيرون حول العالم شخصيات عظيمة - فسيجد أن معظمهم سفاحين لا يشق لهم غبار : (محمد بن عبدالله) مثلا _أمير الحرب الذى قاد الجيوش و قتل و استعبد النساء و الأطفال و ذبح رجال وشباب قبيلة كاملة و مع ذلك يعتبره 1.6 مليار شخص أى خمس سكان العالم نبى يوحى اليه من خالق الكون و لايرون فى أفعاله أى خطأ أخلاقى _ ، أو (جنكيز خان) _الذى قال ذات مرة بأنه يجد المتعة فى دموع النساء و العبيد الأسرى عندما يقتل أقاربهم أمامهم، و لكنه بكل المقاييس أعظم الفاتحين العسكريين فى تاريخ البشرية_ ، أو ( الإسكندر الأكبر ) .........الخ
و حتى الأيديولوجيات المثالية كالشيوعية مثلا التى وعدت بيوتوبيا مثالية على وجه الأرض من عدالة اجتماعية و مساواة بين كافة البشر ارتكب باسمها أبشع الجرائم فى الحكم من منطلق الغاية تبرر الوسيلة و لنا فى (ستالين) و (ماوتسى تونغ) الدليل و البرهان..يكفى معرفة أن أكثر أيديولوجية تسببت فى مقتل البشر خلال القرن العشرين كانت الشيوعية بحوالى 100 مليون قتيل و ليست النازية أو الفاشية .
هل انهزمت ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية بسبب أنها كانت تتبع أيديولوجية شريرة ؟!..هذا محض هراء ، الحقيقة أن فشل النازية كانت بسبب هزيمتها فى معركة البقاء و الانتخاب الطبيعى ( باعتبار أن الحرب هى الصورة النهائية للتنافس و صراع البقاء بين الجماعات
طبيعة الجنس البشرى المتوارثة عبر تاريخه التطورى الطويل لا تسمح بتخديره بالأحلام المثالية من قبيل النزعة الانسانية مالم نمتلك تقنية تسمح بتعديل جذرى فى الطبيعة الانسانية باعادة برمجة غرائزنا و دوافعنا البدائية .
فى النهاية أحب أن أختم بفقرة مقتبسة عن مقال لويل ديورانت بعنوان ( البيولوجيا و التاريخ
و هنا ديورانت يقدم خلاصة تجربته الخاصة مع 10 آلاف عام من التاريخ البشرى قام بتأريخها فى موسوعته الشهيرة .
قوانين البيولوجيا هى الدروس الأساسية للتاريخ .فنحن رهن عمليات الإرتقاء و محاولاته ، و الصراع من أجل الوجود و بقاء الأصلح فى الوجود .و إذا بدا أن بعضنا يفر من الكفاح أو المحاولات فما ذلك إلا لإن جماعتنا تحمينا ، و لكن هذه الجماعة ذاتها لابد أن تمر باختبارات البقاء .
و من ثمة يكون أول درس للتاريخ أن الحياة منافسة .فالمنافسة ليست حياة التجارة و حسب، و انما هى تجارة الحياة ،تكون مسالمة عندما حين يتوافر الطعام و عنيفة حين تزيد الأفواه على الطعام -فالحيوانات يأكل بعضها البعض دون أى وخز للضمير ،و المتحضرون يستهلك كل منهم الأخر عن طريق التقاضى أمام القانون
بينما يكون الدرس البيولوجى الثانى للتاريخ أن الحياة انتخاب و اختيار ففى التنافس على الطعام أو الزواج أو السلطة تنجح بعض الكائنات الحية ،و يفشل البعض الأخر .و فى الصراع من أجل الوجود يكون بعض الأفراد مؤهلين أكثر من غيرهم لمواجهة اختبارات البقاء .و نظرا لأن الطبيعة (و تعنى هنا حصيلة الواقع و عملياته ) لم تقرأ اعلان الاستقلال الأمريكى أو اعلان حقوق الانسان الذى أصدرته الثورة الفرنسية (و هو المصدر الرئيسى للاعلان العالمى لحقوق الانسان 1948) فنحن جميعا نولد غير أحرار و غير متساوين .
(ويل ديورانت )
هل يوجد بالفعل معنى للحياة ؟ و هل هناك هدف ما ورائها ؟ و كيف يجب على البشر أن يعيشوها ؟ و ما هو تعريف الخير و الشر ؟و ما هو المعيار الأخلاقى الذى نستمد منه قيمنا ؟
كل هذه الأسئلة قديمة قدم الوجود الإنسانى ذاته ، و قامت عشرات الأديان و الفلسفات على مر العصور بإعطاء اجابات لهذه الأسئلة وفرض قيم عليا يفترض بالإنسان أن يعيش وفقا لها ،و قد كانت فى الغالب إجابات متناقضة فى ذاتها و لكنها كانت بالتأكيد مريحة لمليارات البشر الذين أمنوا بها ايمانا عميقا لدرجة أن كثيرا منهم ضحوا بحيواتهم من أجل هذه الفلسفات و المؤسسات المصطنعة كالأديان أو القوميات أو الأوطان أو الأيديولوجيات المختلفة ...
بالتأكيد لن أتعرض هنا لكل الفلسفات التى ابتكرها الجنس البشرى على مدى تاريخه الطويل ، و لكن فلسفتين فقط لاغير : الداروينية الإجتماعية و الإنسانوية.
الإنسانوية باختصار هى فلسفة تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شي، حيث بدأت مع عصر النهضة ثم عصور التنوير و العقلانية فى أوروبا و برزت كموجة فكرية تناضل ضد التصور القديم للعالم و ضد التدين المحافظ و ضد الفلسفة الجامدة و ضد التقاليد الجماعية الموروثة وتنتصر إلى الفردانية والروح التحررية والى الآداب الإنسانية والفنون ، و الاهتمام بالإنسان من جهة الدراسة والتعظيم فأعلت من شأنه كثيرا حيث اعتبرت أن الانسان هو أعلى قيمة في الكون وأفضل الكائنات وآمنت بأن معيار التقويم هو الإنسان لأنه مقياس جميع الأشياء.
بينما تفترض الداروينية الاجتماعية أن الأفراد داخل المجتمع يتنافسون من أجل البقاء و أنه لا قيمة للانسان فى ذاته بل هو كغيره من الكائنات الحية يسرى عليه نفس القوانين الطبيعية ، وأن المتفوقين من الأفراد والمجموعات والسلالات يصبحون ذوي نفوذ وثراء ، ويؤكد الداروينيون الاجتماعيون أن الأفراد الذين باستطاعتهم البقاء بشكل أفضل يثبتون مقدرتهم تلك عن طريق تكديس الممتلكات والثروة والمركز الاجتماعي. ووفقًا للداروينية الاجتماعية، فإن الفقر أو التخلف دليل على عدم كفاءة الفرد أو المجموعة.
شخصيا أجد أن الداروينية الاجتماعية و ان كانت تبدو قاسية باردة بلا رحمة لنا -نحن أبناء القرن الحادى و العشرين و قيم الاعلان العالمى لحقوق الانسان و منظمات المجتمع المدنى المعنية بها - أقرب الى الحقيقة بكثير من الفكر الانسانى الذى لا يقدم شيئا واقعيا سوى مخاطبة النزعة المثالية التى تسيطر على بعض الحالمين من البشر ،فالإنسان بداية ليس حرا فهو محكوم بواسطة مجموعة من الدوافع الغرائزية والجينات الوراثية والعلاقات الإجتماعية ،و لا يحمل أى قيمة اضافية الا بمقدار ما يستطيع أن يفهمه عن العالم المحيط به و ما يستطيع أن ينجزه بناء على هذا الفهم من تحكم فى الطبيعة و استغلالها لتكون فى خدمته .
إذا تتبعنا التطور الأخلاقى للجنس البشرى خلال ال50 ألف عاما الماضية ، فيمكن تقسيمه لثلاثة مراحل رئيسية :
أولا مرحلة الصيد و الجمع :
و هى المرحلة التى تمتد من بداية ظهور الانسان الحديث تشريحيا (الهوموسابينز ) فى غابات افريقيا جنوب الصحراء قبل حوالى 50 ألف عام بعد تطوره حتى إكتشاف الزراعة ، و هى مرحلة كان كل انسان فيها على استعداد للمطاردة و القتال و القتل فى وقت كان مقياس البقاء فيه هو القدرة على القتل ،و أغلب الظن أن كل رذائل عصرنا من قتل و اغتصاب و سرقة و قسوة و طمع و شراسة ........الخ كانت مزايا فى رحلة الصراع من أجل البقاء .
ثانيا مرحلة الزراعة قبل 10 آلاف عام :
بعد اكتشاف الزراعة و بداية تشكيل المدن و القرى ثم الدول فيما بعد ، أصبح هناك قانون أخلاقى جديد فالسلام هنا أربح من الحرب ، و الاجتهاد فى العمل أهم من الشجاعة فى الحروب ، و ضبط النفس أفضل من استخدام العنف المفرط مما أدى الى الاعلاء من قيمة الجماعة و الزواج المبكر و فضيلة العفة الجنسية لدى النساء .
ثالثا المرحلة الصناعية قبل حوالى 250 عام:
غيرت الثورة الصناعية نمط الحياة للمواطن الغربى ( أوروبا و أمريكا الشمالية ) على وجه الخصوص ، فنحن فى الشرق لم نصبح مجتمعات صناعية تماما مثلهم بعد
أعلت الثورة الصناعية من قيمة الفردانية فكل شخص يعمل على آلة بمفرده ،و مع تزايد التعقيد التقنى و تأخر سن الزواج ، سكن معظم الناس فى المدن مما أدى الى تحرير ممارسة الجنس. و بعد ازدهار الحركات التحررية النسائية و اختراع تقنيات حديثة كحبوب منع الحمل أصبح من الممكن ممارسة الجنس بدون زواج و بدون حمل أيضا ، فانهارت سلطة الأب و الأم التقليدية (الأسرة ) و بتقدم العلم و الصناعة "التى تقوم فى الأساس على آلات ميكانيكية "تراجع دور الدين التقليدى أيضا و ظهرت فلسفات جديدة ميكانيكية مادية أيضا كالاشتراكية العلمية مثلا (على يد ماركس و انجلز
مما سبق يتضح لنا أن الأخلاق كمنظومة مجتمعية وليدة ظروف اقتصادية و اجتماعية معينة و ليست نظم مثالية فى عقل أحد الحالمين يرغب فى تحقيقها .
بالتأكيد تواجه العلوم و النظريات الإجتماعية بشكل عام (متضمنة الداروينية الإجتماعية بالطبع ) مشكلة أنها ليست علما تجريبيا حياديا تماما بالمعنى المفهوم للعلوم الطبيعية كالفيزياء و الكيمياء و البيولوجى ،و لكن فى حالة الداروينية الإجتماعية تحديدا فهى تستند الى نظرية علمية هى أقوى النظريات التى غيرت نظرة البشرية الى الأبد للطبيعة و كيفية عملها (نظرية داروين فى التطور و آلية الانتخاب الطبيعى باعتبارها المحرك الرئيسى لها و هى آلية عمياء و ليست قوة عاقلة ) ، وظاهرة التطور (تطور كل الكائنات الحية على ظهر كوكب الأرض من سلف واحد مشترك عاش من 3.5 مليار سنة ) و هى حقيقة مثبتة علمية تماما كحقيقة دوران الأرض حول الشمس .
و باعتبار أن الانسان كائن بيولوجى فى الأساس مثل باقى الكائنات الحية فيمكن اعتبار العلوم الاجتماعية فروع هامشية لعلم البيولوجى ، و قد تأسست علوم جادة فعلا فى القرن الماضى بناء على هذا الفرض مثل علم النفس التطورى و علم الأقتصاد التطورى....الخ ، المحاولة الأشهر لتفسير الظاهرة الثقافية الانسانية عن طريق آلية الانتخاب الثقافى( بواسطة الميمات التى تلعب دورا مماثلا لدور الجينات فى التطور البيولوجى ،و تم تقديم هذا الطرح لأول مرة فى كتاب ريتشارد دوكنز الشهير : الجين الأنانى.
بل إن الداروينية ممثلة فى التطور و آلية الانتخاب الطبيعى لم تكتفى بعلم البيولوجى و العلوم الاجتماعية ، فتقدمت الى أكثر العلوم أساسية (علم الفيزياء ) و هو العلم الذى يمكن اختزال كل العلوم الأخرى اليه باعتباره يبحث فى العلاقات و القوانين الاساسية التى تحكم كل شىء فى الوجود ، فنجد فرضية العالم الفيزيائى (لى سمولين ) عن الانتخاب الطبيعى للأكوان
Cosmological natural selection فى اطار نظرية الأكوان المتعددة (Multiverse )
و هى بالتأكيد لم تتبلور كنظرية علمية مثبتة بعد لإنعدام المشاهدات التجريبية التى يمكن بواسطتها اختبار النظرية ( و هو الشرط الأساسى فى العلم الحديث ) حتى و لو كانت ذات بناء رياضى محكم ،لكنها تفتح الطريق أمامنا الى فهم متكامل و علمى للوجود بأسره .
يجدر هنا الاشارة بأن عالم البيولوجى الفذ (ريتشارد دوكنز) رغم أن معظم كتبه تقريبا عن نظرية التطور ، و أنه ملحد تماما (بل أشهر الملحدين على كوكب الأرض على الاطلاق ) فهو يكره (الداروينية الاجتماعية) تماما كما صرح فى حلقة وثائقية باسم (عبقرية داروين ) فى عبارة شعرية تليق بأحد الرهبان البوذيين أكثر من عالم البيولوجى : " نحن -البشر - بمفردنا على هذا الكوكب تطورنا بما فيه الكفاية لنفهم آلية عمل الجينات الأنانية التى شكلتنا ، و لكنها ليست نموذج للطريقة التى يجب علينا التصرف بها بل على العكس فنحن نملك الوعى و الادراك الكافى لنتغلب عليها .فبواسطة الأخلاق الطيبة و العلم الحديث و الأعمال الخيرية و حتى دفع الضرائب يمكننا التغلب على ميراث الطغيان الممثل فى الانتخاب الطبيعى"
و لكن بغض النظر عما يمكن أن يقوله دوكنز -رغم تقديرى له كعالم بيولوجى عظيم - أو غيره من الإنسانيين ( و هم فى الغالب لادينيون ) ، أو ضرب الأمثلة القليلة من التاريخ البشرى عن الشخصيات المسالمة كالملك البوذى (أشوكا ) الذى ترك الحروب التوسعية و اكتفى بمملكته بعد اعتناقه للبوذية أو (غاندى) و حركة المقاومة السلمية التى دعا اليها ، فتاريخنا البيولوجى و حتى التاريخ المكتوب على مدى أكثر من ستة ألاف عام يقفان بعنف ضد هذا الكلام .
فاذا تأمل الشخص مثلا الشخصيات التاريخية -و التى يعتبرها الكثيرون حول العالم شخصيات عظيمة - فسيجد أن معظمهم سفاحين لا يشق لهم غبار : (محمد بن عبدالله) مثلا _أمير الحرب الذى قاد الجيوش و قتل و استعبد النساء و الأطفال و ذبح رجال وشباب قبيلة كاملة و مع ذلك يعتبره 1.6 مليار شخص أى خمس سكان العالم نبى يوحى اليه من خالق الكون و لايرون فى أفعاله أى خطأ أخلاقى _ ، أو (جنكيز خان) _الذى قال ذات مرة بأنه يجد المتعة فى دموع النساء و العبيد الأسرى عندما يقتل أقاربهم أمامهم، و لكنه بكل المقاييس أعظم الفاتحين العسكريين فى تاريخ البشرية_ ، أو ( الإسكندر الأكبر ) .........الخ
و حتى الأيديولوجيات المثالية كالشيوعية مثلا التى وعدت بيوتوبيا مثالية على وجه الأرض من عدالة اجتماعية و مساواة بين كافة البشر ارتكب باسمها أبشع الجرائم فى الحكم من منطلق الغاية تبرر الوسيلة و لنا فى (ستالين) و (ماوتسى تونغ) الدليل و البرهان..يكفى معرفة أن أكثر أيديولوجية تسببت فى مقتل البشر خلال القرن العشرين كانت الشيوعية بحوالى 100 مليون قتيل و ليست النازية أو الفاشية .
هل انهزمت ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية بسبب أنها كانت تتبع أيديولوجية شريرة ؟!..هذا محض هراء ، الحقيقة أن فشل النازية كانت بسبب هزيمتها فى معركة البقاء و الانتخاب الطبيعى ( باعتبار أن الحرب هى الصورة النهائية للتنافس و صراع البقاء بين الجماعات
طبيعة الجنس البشرى المتوارثة عبر تاريخه التطورى الطويل لا تسمح بتخديره بالأحلام المثالية من قبيل النزعة الانسانية مالم نمتلك تقنية تسمح بتعديل جذرى فى الطبيعة الانسانية باعادة برمجة غرائزنا و دوافعنا البدائية .
فى النهاية أحب أن أختم بفقرة مقتبسة عن مقال لويل ديورانت بعنوان ( البيولوجيا و التاريخ
و هنا ديورانت يقدم خلاصة تجربته الخاصة مع 10 آلاف عام من التاريخ البشرى قام بتأريخها فى موسوعته الشهيرة .
قوانين البيولوجيا هى الدروس الأساسية للتاريخ .فنحن رهن عمليات الإرتقاء و محاولاته ، و الصراع من أجل الوجود و بقاء الأصلح فى الوجود .و إذا بدا أن بعضنا يفر من الكفاح أو المحاولات فما ذلك إلا لإن جماعتنا تحمينا ، و لكن هذه الجماعة ذاتها لابد أن تمر باختبارات البقاء .
و من ثمة يكون أول درس للتاريخ أن الحياة منافسة .فالمنافسة ليست حياة التجارة و حسب، و انما هى تجارة الحياة ،تكون مسالمة عندما حين يتوافر الطعام و عنيفة حين تزيد الأفواه على الطعام -فالحيوانات يأكل بعضها البعض دون أى وخز للضمير ،و المتحضرون يستهلك كل منهم الأخر عن طريق التقاضى أمام القانون
بينما يكون الدرس البيولوجى الثانى للتاريخ أن الحياة انتخاب و اختيار ففى التنافس على الطعام أو الزواج أو السلطة تنجح بعض الكائنات الحية ،و يفشل البعض الأخر .و فى الصراع من أجل الوجود يكون بعض الأفراد مؤهلين أكثر من غيرهم لمواجهة اختبارات البقاء .و نظرا لأن الطبيعة (و تعنى هنا حصيلة الواقع و عملياته ) لم تقرأ اعلان الاستقلال الأمريكى أو اعلان حقوق الانسان الذى أصدرته الثورة الفرنسية (و هو المصدر الرئيسى للاعلان العالمى لحقوق الانسان 1948) فنحن جميعا نولد غير أحرار و غير متساوين .
