
اوباما داخل كنيسة المهد بمدينة بيت لحم
كان نجاح الرئيس أوباما في تحقيق مُصالحة سريعة وفورية بين تركيا وإسرائيل بإشرافه، بمثابة انقلاب استراتيجي ومن الطراز الرفيع أيضاً، ستكون له آثار ضخمة على مستقبل التوازنات الإقليمية في المنطقة.
أوْلى وأهَم هذه الآثار، وقف التنافُس بين هاتين القوتين الإقليميتين على مواقع النفوذ في نظام الشرق الأوسط، ثم الانتقال من هناك لتشكِّلا معاً "الوكالة الإقليمية المُشتركة" الجديدة للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في هذه المنطقة.
سعد محيو
30 مارس 2013
وكالة الانباء السويسرية
كسر الرئيس الامريكي باراك اوباما حاجز الجليد الذى جرى بينه و بين رئيس الوزراء الاسرائيلي بينامين نتنياهو ، بعد أن تاكدت واشنطن ان زعيم حزب الليكود سوف يستمر فى منصبه لاربع سنوات اخري .
و كانت الاختلافات فى وجهات النظر بين اوباما و نتنياهو قد بدأت منذ الايام الاولي لحكم اوباما ، على ضوء رفضه لفكرة استخدام القوة العسكرية حيال ايران ، و سعيه الى استخدام القوة الدبلوماسية و العقوبات الدولية حيال طهران ، او السعي لاسقاط النظام الايراني من الداخل بانتفاضة شعبية ، ثم اتى الخلاف الثاني على ضوء ما تراه اسرائيل السماح الامريكي لانظمة صديقة لها فى الشرق الاوسط بالسقوط تحت وطأة الانتفاضات الشعبية فيما يعرف بالربيع العربي و اخيرا ً عدم تأييد تل ابيب لصعود قوى اسلامية فى المنطقة على انقاض الانظمة التى رحلت .
لم يكن من المتوقع ان تنجح زيارة اوباما الى تل ابيب و القدس ، بل و يمكن القول انه على الصعيد الاعلامي تبدو الزيارة كأنها روتينية و فاشلة و لكن ما جرى خلف الكواليس كان مؤثرا ً و يعتبر تصفية حقيقية لاهم خلاف بين امريكا و اسرائيل منذ عقود.
و الحاصل ان اوباما فى جلسة مغلقة مع نتنياهو اعطى لاسرائيل الحق فى ضرب ايران عسكريا ً ، مع حتمية التنسيق و اخطار امريكا قبل تلك الضربة ، و ان تكون تلك الضربة هى الخيار الاخير ، و لكنه يظل خيار مطروح ، و بذلك يعطي تل ابيب وعد حقيقي بأن استخدام القوة ضد ايران لم يكن مجرد مزحة امريكية او مجرد محاولة لبث الخوف والتوتر بين حكام طهران و ان الامر قابل للتنفيذ ، و حرص اوباما عشية زيارته لاسرائيل ان يصرح بأن المجتمع الدولي لن يظل يفاوض طهران حول برنامجها النووي للابد.
و تعتبر تلك المرة الأولى التى يقر فيها اوباما بحق اسرائيل فى توجيه ضربة عسكرية الى ايران دفاعا ً عن نفسها ، و هو انتصار دبلوماسي كبير لتل ابيب ، و اتفق اوباما ونتنياهو على بحث الخطوة الفعلية المقبلة حيال ايران عقب الانتخابات الرئاسية المقبلة لان الولايات المتحدة الامريكية تراهن على اندلاع اضطربات شعبية على غرار الربيع العربي خلال تلك الانتخابات ، و وافقه نتنياهو فى رهانه.
و بذلك سوف تنتظر امريكا واسرائيل اندلاع ثورة شعبية فى ايران خلال الصيف المقبل من اجل تركيع الدولة الايرانية، لعل ما انتظره الغرب خلال انتفاضة 2009 الايرانية يتحقق هذه المرة على ضوء اختلاف الوضع الاقتصادي عن عام 2009 ، اذ ان العقوبات الاقتصادية الدولية ارهقت الاقتصاد الايراني و اثقلت على كاهل المواطن والمجتمع فى ايران ، و ادى ذلك الى اضطرابات جرت فى ربيع 2011 ثم صيف 2012 و ان لم تأخذ تلك الاضطرابات شكل الثورات او الانتفاضات الشعبية الكبري .
و فيما يتعلق بالملف السورى ، اتفق اوباما و نتنياهو على التنسيق الكامل ، مما يعني عدم السماح للقوى التكفيرية او الجهادية داخل المعارضة السورية بالحصول على السلاح ، و ان يستمر وقف اطلاق النار بين سوريا و اسرائيل على ان يبقى الوضع على ما هو عليه و الا يأتى اى نظام بديل فى دمشق يطالب بعودة هضبة الجولان المحتلة .
الملف الرابع كان العلاقات التركية – الاسرائيلية ، حيث فاجأ اوباما العالم بمصالحة التى عقدها بين نتنياهو و رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان ، و ذلك تلبية لمطلب تركي واضح منذ عام 2010 حينما اعتدي الجيش الاسرائيلي على اسطول الحرية التركي ، و عقب اتصال نتنياهو باردوجان صدر بيان فى انقرة يرحب بالاعتذار الاسرائيلي و يؤكد ان تل ابيب ابلغت انقرة بأن الاجراءات الاسرائيلية حيال ادخال الصادرات التركية الى الاراضى الفلسطينية قد تم تخفيفها ، مما يعني ان ملف العلاقات الاقتصادية بين اسرائيل و تركيا قد انتعش مجددا ً .
هكذا نسق اوباما بين دول الجوار السورى ، سواء على المستوي الدبلوماسي او الاقتصادي ، علما ً بأن تركيا بدورها تسعي الى نظام سورى جديد لا يسيطر عليه الجهاديين او التكفيريين ، بل قوى اسلامية شبيهة بما هو الحال فى القاهرة و طرابلس و تونس و الدار البيضاء ، و مثلما لا تريد اسرائيل ان يكون هنالك نظاما ً سوريا ً يطالب بهضة الجولان ، فأن تركيا بدورها لا تريد نظام سورى يطالب بلواء الاسكندرون.
كما ان لاسرائيل ثقل فى ملف التمرد الكردي الذى تعاني منه تركيا و تسعى الى غلق ملف العنف الذى اندلع زهاء ثلاثة عقود من الزمن ، و بالفعل اصدر الزعيم التاريخي لكرد تركيا عبد الله اوجلان نداءا ً تاريخيا ً للمقاتلين الكرد بالقاء السلاح ، مما يمثل نجاحا ً تاريخيا ً لاردوجان فى انهاء التمرد التركي و تجاوز اكبر عقبة فى تاريخ العلاقات التركية – الاسرائيلية فى اسبوع واحد .
سعى اوباما لاصلاح الملفات بين تركيا و اسرائيل يؤكد ان واشنطن لم تنس جهود اردوجان طوال العامين الماضيين حيال الملف السورى ، و من قبله الملف الليبي ، وكيف ان اردوجان يعرض أمن بلاده للخطر من اجل اهداف الناتو و امريكا فى سوريا ، صحيح ان اردوجان يريد ان يلعب دور حارس المصالح الامريكية فى جنوب تركيا وتحديدا العراق و سوريا و لبنان ، و لكن هذا المسعي و الجهود التى يبذلها اردوجان تروق للامريكان كثيرا ً .
اما الملف الاخير فى مباحثات اوباما و نتنياهو بعيدا ً عن اعين الاعلام فكانت ملف التسليح الامريكي لاسرائيل ، حيث قرر اوباما تخصيص أموال أخرى لتمويل منظومات اعتراض الصواريخ الإسرائيلية، خاصة "القبة الحديدية" والبدء بمداولات لتمديد وتوسيع المساعدات العسكرية إلى إسرائيل لمدة 10 سنوات أخرى بعد أن ينتهي الاتفاق الحالي الساري المفعول والمتوقع أن ينتهي عام 2017.
و انصاع اوباما لرغبة زعماء تل ابيب فى عدم اثارة الملف الفلسطيني باستثناء بعض العبارات الدبلوماسية المعتادة فى المؤتمرات الصحفية ، ولكن خلف الستار لم يتحدث الوفد الامريكي مع زعماء اسرائيل بكلمة واحدة عن القضية الفلسطينية ، التى نجحت جهود ادارة الامريكي جورج بوش الابن و الاسرائيلي ارييل شارون مطلع القرن الحادي و العشرين فى جعلها فى مؤخرة جدول اعمال كافة المؤتمرات العربية و الاقليمية بالمنطقة على حساب ملفات الحرب على الارهاب و حربي العراق و افغانستان ثم الاصلاح السياسي و الانهيار الاقتصادي.
ثم اتى الربيع العربي فى عصر باراك اوباما ليجعل من كل دولة عربية ملف و قضية مستقلة بذاتها ، و اليوم اصبح الاهتمام مركز تارة على الحرب الاهلية فى سوريا وتارة اخري الحوار الوطني اليمني و تارة ثالثة جس نبض الحكومات الجديدة فى مصر وتونس و ليبيا ، بالاضافة الى مخاوف العرب من تقسيم ليبيا و اليمن و مخاوف الغرب من صعود الجهاديين و التفكيريين للحكم وغيرها من القضايا الجديدة التى افرزتها ثورات الربيع العربي .
وعلى المستوي الاعلامي حرص رئيس دولة اسرائيل شيمون بيريز على ان يلقى خطاباً فى مستهل زيارة اوباما ، و اغدق على ضيفه بعبارات الثناء ، موضحا ً ثقته و ثقة شعبه فى انه كرئيس لامريكا لا يمكن ان يخذل شعب اسرائيل و انه لديه التزام اخلاقى واضح حيال هذه البلد ، و من جانبه رد اوباما فى اكثر من مناسبة على ان قيام دولة يهودية هو امر منتهي منذ عهد النبي موسي ، على حد تعبيره ، ما يعني ان الرئيس الامريكي يرسل اشارة واضحة الى موافقة واشنطن على يهودية دولة اسرائيل ، و هى واحدة من اهم القضايا الخلافية بين اسرائيل و جيرانها العرب

هكذا سطر اوباما زيارته الى اسرائيل ، و اثبت ان واشنطن مهما اختلفت مع تل ابيب ، فان المصلحة واحدة ، الاختلاف فحسب على طريقة تحقيق نفس المصالح التى لا غني عنها لكلا ً من اسرائيل و الولايات المتحدة الامريكية ، كما اثبت اوباما انه لاعب سياسي ماهر ، و انه قادر على التعامل مع اليمين الصهيوني بكل سلاسة وقت الجد ، بعد ان راهن البعض على عدم قدرة اوباما فى التعامل مع حاكم اسرائيلي الا حينما يكون على شاكلة ايهود اولمرت او تسيبى ليفني ، بل و كانت عودة كلاهما الى الساحة السياسية قبيل انتخابات الكنيست مطلع عام 2013 بناء على توصيات امريكية خالصة، و لكن اوباما باتفاقه مع نتنياهو يثبت انه متعدد الخيارات ، و قادر على ادارة دفة العلاقات مع اهم حليف لبلاده فى الشرق الاوسط .
و من القدس عرج اوباما سريعا ً الى الضفة الغربية و تحديدا ً رام الله فى زيارة بروتوكولية الى مقر السلطة الفلسطينية من اجل التباحث مع الرئيس محمود عباس ، وترديد بعض العبارات البروتوكولية عن حل الدولتين و ان اعلان دولة فلسطين قادم لا محالة ، فى تناقض فاضخ لعرقلة امريكا عامي 2011 و 2012 لمسعي عباس باعلان دولة فلسطين من خلال الامم المتحدة .
زيارة اوباما الى الضفة الغربية و ان اتت باردة ، و لكن ضرورية من اجل بث ثقة المجتمع الدولي فى السلطة الفلسطينية ، على ضوء مسعي حركة فتح الى اجراء انتخابات برلمانية و رئاسية فى الضفة الغربية و قطاع غزة من اجل اعادة بسط نفوذ الحركة على القطاع الواقع تحت حكومة حركة حماس المقالة .
و كانت المحطة الثالثة و الاخيرة لاوباما فى جولته الشرق اوسطية هى المملكة الاردنية، حيث تباحث فى عمان مع العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين ، وفى عمان بات واضحا ً مدى التجانس بين اوباما و عبد الله الثاني فيما يخص الملف السورى ، حيث قرر اوباما ارسال مساعدات عاجلة للاردن من اجل مساعدتها فى ايواء 460 الف لاجى سورى ، كما يتفق عبد الله الثاني مع امريكا و تركيا و اسرائيل فيما يتعلق بانتقال السلطة فى سوريا .
و حرص اوباما فى ختام جولته بالاردن على ان يستعيد بعضا ً من اجواء زيارته الى القاهرة عام 2009 حينما زار بعض المناطق الاثرية ، حيث هبطت طائرة الرئيس الامريكي فى منطقة البتراء الاثرية و تفقد اوباما بعض آثار المنطقة القديمة، كما زار كنيسة المهد بمدينة بيت لحم فى الضفة الغربية بصحبة الرئيس محمود عباس و وزير الخارجية الامريكي جون كيري .
ويلاحظ انه من اصل ثلاثة محطات فى الشرق الاوسط ، زار اوباما محطتين فى نطاق دول الجوار السورى ، و فى عمان انطلق اوباما فى المؤتمر الصحفى ليكرر رؤية بلاده لسوريا ما بعد الثورة و الحرب وهى سوريا لا يحكمها باى حال من الاحوال الرئيس الحالى بشار الاسد على حد قول اوباما .
يتضح من السطور السابقة ان الملف السورى كان له الاولوية ، و معه الملف الايراني الذى لا يتجزء عن سابقه ، و ان امريكا تتأهب لسقوط النظام السورى ثم التفرغ لايران بعد ذلك .
و تجنب اوباما فى جولته زيارة بلدان الربيع العربي ، على ضوء الاضطرابات التى تموج بها هذه الدول اليوم ، حتى لا تسفر زيارته الى انها دعم لطرف ضد الآخر ، فى ظل مراجعة امريكا لسياستها حيال تلك الدول ، بالاضافة الى الهجوم القوى ضد سياسات اوباما حيال حكم الاخوان المسلمين لمصر من خلال الحزب الجمهورى فى الكونجرس الامريكي خاصة الخطب الرنانة لزعماء حزب الشاى راند بول و ماركو روبيو .
لم تكن امريكا تريد من مصر ما بعد كامب ديفيد الا ما جرى خلال هذه الزيارة ، ان يأتى الرئيس الامريكي الى الشرق الاوسط من اجل التباحث حول المصالح الامريكية و الرؤية الامريكية لمشاكل تعرقل المصالح الامريكية ، من دون ان يضطر الرئيس الامريكي لحفظ التوازن بالمنطقة عبر المرور الى القاهرة اذا ما مر بالرياض او تل ابيب ، اليوم الرئيس الامريكي يزور اسرائيل دون ان يمر بالقاهرة للمرة الاولي منذ عام 1974 ، اليوم امريكا للمرة الاولي منذ عام 1948 لا تسمع لهجة قوية من القاهرة حيال القضية الفلسطينة ، اليوم للمرة الاولي منذ عام 1948 يزور مسئول او حاكم امريكي المنطقة دون ان يتحدث بجدية عن القضية الفلسطينية .
لم يكن الغرب و امريكا تحديدا ً يريدون من مصر ما بعد كامب ديفيد الا هذا الصمت ، الذى و يا للغرابة لم يلتزم به صانعوا كامب ديفيد مثل حسني مبارك و انور السادات ، بل طبقه بامتياز حكام مصر الاسلاميين .
ختاما ً تبدو زيارة اوباما للشرق الاوسط من الناحية الاعلامية عادية او حتى اقل من العادية ، و لكن خلف الستار صنع اوباما تحالفا ً قويا ً يساند رؤيته لسوريا الثورة ، وسوريا ما بعد بشار الاسد ، كما حل ازمته الشهيرة مع نتنياهو و الاهم من ذلك كله قدرته على اقناع الشرق الاوسط بأن يزوره دون ان يناقض القضية الام .. القضية الفلسطينية