الصورة كانت واضحة للغاية امام الجميع فى ليبيا خلال الحرب الاهلية التى اندلعت هنالك ، و لكن وحشية كتائب القذافى جعلت البعض لا ينتبه الى حقائق تجرى فى ملعب الفريق الآخر .
قبل ان تنتهي الحرب بانتصار ما اطلق عليه الميلشيات الثورية ، كانت قوى اقليمية قد جعلت المسلحين الاسلاميين هم اصحاب الكلمة العليا فى تلك الميليشيات التى بدأت اولا ً بشكل شعبى عفوي ، كما انضم لها بعض الجنود السابقين فى الجيش الليبي ، و لكن دولة قطر تحديدا ً كانت لها رؤية اخرى ، تتمثل فى اسلمة الميلشيات ، و كانت رؤية قطر و محاولاتها لتنفيذ ذلك حدثا ً منطقيا ً للغاية على ضوء تمويل الدوحة ماديا ً للعديد من التحركات الدولية حيال ليبيا ، و هو ما قصه عبد الرحمن شلقم فى كتابه نهاية القذافي
و لعل اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس وزير داخلية القذافى الذى انشق و اصبح وزير دفاع المجلس الوطني الانتقالي الليبي كانت واحدة من اهم خطوات التخلص من شخصيات عسكرية موالية للمعارضة و غير تابعة للتيار الاسلامي .
هكذا حدث المشهد الشاذ ، مقاتلو الجماعة الليبية المقاتلة ( اغلب اعضائها يتبعون السلفية الجهادية و انخرطوا مع تنظيم القاعدة فى افغانستان ) و الاخوان المسلمين و باقى السلفيين يحاربون على الاراضى الليبية بغطاء جوى من حلف الناتو ، مع وجود فرق استخباراتية على الارض من امريكا و فرنسا و ايطاليا ، و وجود بعض المستشارين العسكريين من بريطانيا و فرنسا تحديدا ً يرسمون بعض الخطط العسكرية
حينما انتهت الحرب ، بمصرع القذافى و سقوط نظامه و تفكيك كافة القوى الامنية الليبية ، كانت القوى الاكثر قوة على الارض هى الميلشيات ، خاصة الاسلامية ، 200 مجموعة مسلحة بعضها قبائلى و البعض الاخر اسلامي
تنقسم ليبيا عموما ً الى ثلاث ولايات ، الشرق و الغرب و الجنوب ، فى الغرب اهم الميلشيا المسيطرة على الارض تابعة لحزب الوطن بزعامة عبد الكريم بلحاج ، احدى قيادات الجماعة الليبية المقاتلة الذى سبق و ان حارب فى صفوف القاعدة بافغانستان
فى الغرب هنالك سرايا الشهيد راف الله السحاتي بزعامة اسماعيل الصلابي ، بالاضافة الى كتيبة شهداء 17 فبراير .
وسط فوضى الميلشيات فى ليبيا ، من الهراء الظن انه سوف يكون هنالك دولة ، فالسلاح الذى كان فى يد من يطلق عليهم الثوار ضد القذافى ، اصبح الان ضد اى طرف او جهة لا تعجب حامل السلاح .
منذ سقوط القذافى و حتى اليوم ، كافة الحكومات التى حكمت ليبيا تعرض رؤسائها و وزرائها لاقتحام من ميلشيا ما مسلحة ، تجبر رئيس الوزراء او الوزير على توقيع بعض القرارات التى تفيد نفوذها ، ثم يتركونه .
ضاق الناس ذرعا ً بالارهاب الديني ، و الميلشيات الاجرامية التى استولت على ثورتهم ، و بدا النفوذ القطرى فى البلاد مثارا ً للشعور بالمهانة الوطنية
وزاد الطين بلة ان المجلس الانتقالى ردخ للميلشيات ، حيث كلفها بالامن فى ظل غياب الجيش و الشرطة ، و اصبحت الميلشيات مسجلة لدى هيئة اركان الجيش الجديد الوليد
تطلع الشعب الليبي للخلاص عبر الانتخابات ، من اجل اختيار 200 عضو يمثلون المؤتمر الوطني العام ، اى البرلمان الليبي ، و بالفعل تصدر الانتخابات تحالف القوى الوطنية المؤلف من 44 حزبا ً بزعامة محمود جبريل ، احدى رجالات نظام القذافى الذى انشق عنه عقب اندلاع الحرب ، و اتى فى المرتبة الثانية حزب العدالة و البناء الذراع الحزبي لجماعة الاخوان المسلمين ، و خرج حزب الوطن الذراع الحزبي لعبد الكريم بلحاج من العملية السياسية بدون مقعد واحد ، علما ً بأن نسبة المستقليين القبائليين كانت اكبر من كافة الكتل السياسية .
و لانه لا يوجد دولة تحمي العملية الديموقراطية ، تحركت الميلشيات الاسلامية التى يرأسها شخصيات هزمت فى الانتخابات ، او خسرت اذرعتها الحزبية و السياسية و رجالاتها فى العملية السياسية ، و قامت بمحاصرة البرلمان الليبي ، و تم اختطاف بعض اعضائه و ضربهم بشكل مبرح ، و التهديد بالاغتيال ، و كانت النتيجة ان البرلمان ذو الاغلبية العلمانية – القبائلية اصبح لا يصدر الا قرارات باوامر من الميلشيات الاسلامية
رئيس البرلمان هو القائم باعمال رئيس الجمهورية ، و خلال عام واحد فحسب ترأس الدولة و البرلمان اربع شخصيات ، فى كل مرة يملى الاسلاميين شخصية اما اسلامية او قريبة من فكرهم ، و مع اول خلاف ينتهي الامر و يخرج رئيس الجمهورية من اللعبة
و قامت الميلشيات بمحاصرة البرلمان من اجل اصدار قانون العزل السياسي ، و تم وضع 200 نعش على عتبات البرلمان قبل الجلسة ، و كانت الرسالة واضحة .. جميع اعضاء البرلمان سوف يتم قتلتهم اذا لم يتم اقصاء كافة من عمل مع نظام القذافى يوما ً ما حتى لو انشق لاحقا ً .. لدرجة ان رئيس الجمهورية و البرلمان محمد المقريف وقتذاك كان منشقا ً عن القذافى مطلع الثمانينات و مع ذلك ناله القرار .
عزل و اقصاء رجالات النظام القديم من اجل ان تخلو الساحة السياسية لساسة التيار الاسلامي ، مثلما قامت الحرب بعزل و اقصاء و تدمير الجيش و الشرطة و المخابرات الليبية لصالح عناصر عسكرية و مدنية اسلامية مسلحة
.........
.........
الى جانب بلحاج فى الغرب ، يوجد فوزى بوكتف و اسماعيل الصلابى و مصطفى سقيلى فى شرق البلاد ، بالاضافة الى حركة انصار الشريعة التى تسيطر على مصراته و لها تواجد فى بنغازي ، يطلقون على مصراته فى ليبيا اليوم رابعة العدوية على غرار سيطرة اسلاميو مصر على منطقة بنفس الاسم بالعاصمة
و هكذا سيطرت الميلشيات المسلحة على الرئاسة و الوزارة و البرلمان ، رغم ان الشعب انتخب غيرهم فى صناديق الاقتراع ، ما يعني ان الشعب لا يريدهم فى تلك الاجهزة
و خوفا ً من عملية اعادة بناء الجيش و الشرطة و المخابرات ، و من اجل استمرار اعتماد الدولة و الشعب على الميلشيات ، مولت قطر و الاخوان المسلمين الفوضى من حين الى آخر ، حيث يتم تدبير اعتداءات و اغتيالات بحق رجالات الجيش و الشرطة ، و بعض المقار العسكرية ، وصولا ً الى اقتحام بعض الميلشيات الاسلامية لمقر وزارة الدفاع ، حتى يسلم الجميع بانها الطرف الاقوي فى المعادلة ، و تبتعد الدولة و المجتمع عن فكرة تأسيس جيش و شرطة من عموم الشعب ، و الاعتراف بهيمنة تلك الميلشيات الوهابية الاخوانية السلفية المدعومة من قطر
و فى نفس الوقت تحرك الاسلاميين للسيطرة على عملية انشاء الجيش الوليد ، فتم تدبير عملية اقتحام وزارة الدفاع و هيئة الاركان ، فقدم وزير الدفاع اسامة الجويلى استقالته ، ثم رئيس هيئة الاركان ، و اصبح من حق البرلمان انتخاب رئيس جديد لهيئة اركان القوات المسلحة الليبية ، و تحت ضغط الميلشيات الاسلامية تحقق الحلم المستحيل يوم الاثنين 29 يوليو 2013 ، و تم تسمية الاخواني العقيد الركن عبد السلام جاد الله الصالحين رئيسا ً لاركان القوات المسلحة الليبية.
وفى نفس اليوم و نفس الجلسة ، كلف رئيس الجمهورية نورى بوسهمين مجلس ثوار ليبيا بتأمين البلاد، وهو المجلس الذي يضم ميلشيات من جماعة الإخوان المسلمين وتيارات اسلامية أخرى ، من أبرز قيادات هذا المجلس وسام بن احميد المتهم بقتل 42 شاباً في بنغازي ليلة اقتحام مقر درع ليبيا الذي يرأسه هو، وهو الدرع الذي يعمل خارج سيطرة الدولة ويضم أغلب الجماعات الليبية المقاتلة، إلى جانب عبد الحكيم بالحاج وعادل الغرياني.
خطة الاسلاميين فى الفترة المقبلة هى دمج الميلشيات فى الجيش و الشرطة و المخابرات ، و لهذا هم سعى الى جعل البرلمان الدمية ينتخب شخصيات عسكرية ذات توجه اسلامي على رأس تلك المؤسسات ، من اجل اسلمة تلك المؤسسات فى ثوبها الثورى الجديد .
.........
.........
تمتلك ميلشيات كتيبة 17 فبراير التي يقودها فوزي بوكتف وميليشيا الشهيد راف الله السحاتي بقيادة إسماعيل الصلابي ترسانات أسلحة ضخمة وسجونا يحتجزون فيها مسجونين خارج نطاق النظام القضائي الرسمي، جيش و معتقلات خاصة ، و كذلك الامر بالنسبة للميلشيات التابعة لبلحاج و لانصار الشريعة و بعض الميلشيات الاخوانية الاخري .
و فى تحقيق داخلى لجهاز استخباراتي تابع للمجلس الانتقالى الليبي جرى خلال الحرب الاهلية و قبل سقوط طرابلس او مصرع القذافى اثبت ان الاسلاميين فى شرق ليبيا لديهم اتصال مع تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب العربي بالجزائر .
.........
.........
الاسلاميين فى ليبيا لديهم استعداد للتحرك فى دول اخرى ، إسماعيل الصلابي قائد كتائب الشهيد راف الله السحاتي صرح يوم 6 يوليو 2013 عقب ثلاثة ايام من انهيار النظام الاخواني فى مصر لاذاعة درنة " ليبيا هي الموقع التبادلي لحركة الإخوان المسلمين الأن ونحن ندعو أي رفيق وعضو من حركة الاخوان بمصر يتمكن من اللجوء الي ليبيا بالحضور اليها وسوف نكون في استقباله وتوفير له ما يريد من مسكن ومرتب ، يجب إعادة بناء الحركة في ليبيا وترجع قويه ومن بعد إرجاعها الي مصر لسحق الإنقلاب العسكري الذي حصل ضدنا ، سوف نحول مصر الي أرض محروقه تحت أقدام العسكر وسوف نجعل حركة الإخوان أكثر قوة من قبل ، المال والسلاح موجودان والرجال كذلك وغداً لناظره قريب " .
الصلابي احد امراء الحرب ضد القذافى ، و قاد ميلشيته لاقتحام سرت مسقط رأس القذافى تحت غطاء جوى من حلف الناتو ، و بتوجيه من مستشارين عسكريين ذو جنسيات بريطانيا وفرنسية
.........
.........
عقب اغتيال احدي المعارضين للاخوان المسلمين فى ليبيا ، اندلعت انتفاضة شعبية ، ومن غير المعروف حتى الان ما هو مستقبل استمرارها ، و لكن الاخوان المسلمين سارعوا بالايعاز الى رئيس الوزراء الموالى لهم على زيدان بان يعلن استعداده لتعديل وزاري ، و لكن المطالب الثورية فى الشارع الان تتمثل فى ما يلى :
1 – حل جميع الاحزاب و الميلشيات
2 – العودة الى دستور 1951
3 – حل المؤتمر الوطني العام و العودة لانتخابات جديدة خلال ستة اشهر .
4 – تكليف رئيس المحكمة الدستورية العليا برئاسة الجمهورية الليبية .
5 – تأسيس جهاز للشرطة و آخر للجيش و ثالث للمخابرات فى اسرع وقت دون توجهات ايدولوجية
هذه البنود الثورية الخمسة هى مسعي الليبين اليوم ، و لكن مع سيطرة السلاح ، امام ليبيا خيارات ضيقة ، الاول ان يذعن الاسلامين لتلك المطالب من اجل الانحناء امام العاصفة ، و لكن هذا الفعل السياسي هو امر مستحيل فى قاموس الاسلام السياسي الاقصائى التصادمي
و الخيار الثاني هو ان تنخرط القبائل فى اشتباكات مع الميلشيات ، اى حربا ً اهلية ثانية ضد الاسلام السياسي
و الخيار الثالث تدخل عسكري ، ناقشته المخابرات الفرنسية بالفعل حيال ليبيا الجنوبية تحديدا ً ، حيث تتشارك حدودها مع بعض الدول الافريقية التى كانت مستعمرات فرنسية سابقة و لا يزال لفرنسا مطالب و نفوذ هنالك بعد الاستقلال
ضاعت ليبيا .. و اصبحت امام الحرب الاهلية او التدخل الاجنبي او التقسيم لجعل الاسلاميين يعيشون مع بعضهم البعض فى كنتونات طائفية .. امامهم سنوات طويلة امام الاستقرار السياسي و الخلاص من الاستعمار الاخواني الوهابي السلفى .
.........
.........
هذا الارهاب كانت مصر معرضة له لو نجح الارهابيين فى دحر الجيش و الشرطة و المخابرات ، من حاصر المؤسسات الدستورية و الاعلامية يوما ً ما كان سيمتلك الجرأة فى مرحلة لاحقة فى غياب الجيش و الشرطة من ان يحاصر البرلمان، و يطلب منه كل القرارات اللازمة حتى لو لم يكن هذا البرلمان ذو اغلبية اسلامية
مهما عقد المصريين من انتخابات ما كانوا ليتخلصوا من هؤلاء الشرذمة ، انتخب الليبين العلمانيين و رجالات معتدلين من النظام السابق ، فاذا بالبرلمان يصبح رهينة فى يد الارهابيين ، و ينتخب الاسلامي تلو الاسلامي رئيسا ً للدولة ، و قائدا ً للجيش ، ورئيسا ً للوزراء ، بلا رحمة ولا هوادة
