في محاولاتي الحثيثة للوقوف على اسباب فشل الليبراليين المصريين في معاركهم السياسية والمجتمعية والثقافية أمام الاسلاميين توقفت طويلا عند نقطة عدم قدرة الليبرالي المصري على المواجهة والمكاشفة بحقيقة ما يعتنقه من أفكار، وتراجعه الدائم أمام المد الاصولي الذي يعرف خطره جيدا ويراه يلتهم وطنه وأهله.
الاسلاميون يرمون الليبرالي بالكفر جهارا نهارا، وهي تهمة لا يجوز لهم توجيهها سواء عن دراية أو جهل، لأن ذلك ما تمليه عليهم مرجعيتهم الاسلامية العقائدية ذاتها، بعيدا عن أي قيم انسانية أو ادبية لا يعترفون بها من الاساس. كما أن الاسلاميين دائمي التهديد للجموع من خطر الليبرالية باعتبارها ثقافة غربية وافدة ورائها مؤامرة صهيونية امبريالية لولبية تهدف إلى هدم الاسلام وغزو المنطقة العربية. التهديد النفسي الذي وضعته مثل تلك الاتهامات الباطلة على الليبرالي المصري لابد أن يأخذ مساحته من التحليل الجاد لمعرفة أثره على التيار الليبرالي المعاصر ككل واسباب اخفاقه في مباشرة دوره الاساسي المنوط به من تنوير وتحديث.
مثل تلك التهم ليست بجديدة. فالتاريخ يحدثنا عن تعرض الرعيل الاول ممن قادوا الحركة الليبرالية في مصر في أوائل القرن العشرين لمثل تلك الاتهامات وأكثر. قاسم أمين فوجيء ذات ليلة بشخص غريب يدق عليه باب بيته ليطلب مجالسة زوجة الأول بحجة أنه ينادي بالاختلاط بين الجنسين. فهل تراجع قاسم أمين عن افكاره بعد تعرضه لهذا الموقف؟ هل أخذ موقفا دفاعيا وانهك نفسه في محاولة التأكيد على أنه رجل كامل الرجولة مثلا، وأنه شرقي غيور وقفل حتى النخاع؟ هل أجبر زوجته على ارتداء الحجاب لتفادي تكرار هذا الموقف؟ هل سعى للظهور في اعلانات بيريل للرد على معارضيه؟ أبدا.. بل بالعكس، اعتبر الموضوع برمته قصة طريفة تدل على تفشي ضيق الأفق الذي يقاومه، ومن ثم زاده ذلك اصرارا على المضي قدما في محاربة الجهل والتخلف.
الانهزام النفسي الذي تعرض له الليبرالي يطول شرح اسبابه، وسادلف إليه لاحقا. ما يعنيني هنا هو التأكيد على أن استسلام العقل الليبرالي للضغوط المجتمعية المتأثرة بالخطاب الاصولي هو أكبر خطيئة وقع فيها الليبرالي المصري، الذي قدم التنازلات المتتالية حتى قضى على أية امكانية لاعادة بناء تيار أو نموذج ليبرالي حقيقي ينقذ وطنه من الهوة التي كان محتما أن يسقط فيها بسبب انصرافه عن اداء واجبه المتمثل في طرح مشروعه التنويري-التحديثي وترغيب العوام في الالتفاف حوله لأنه يحمل الشفاء من الامراض التي يعانون منها. ليس الحل هو أن يمسك الليبرالي سبحة أو أن يأخذ لنفسه الصور وهو يؤدي فرائضه الدينية ليدفع عن نفسه تهم الكفر والفسق والانحلال. ليس الحل هو المزايدة على الاسلاميين وتبني قضاياهم ووضع اولوياتهم على قائمة اولوياته. ليس الحل هو التنصل من انتماءه لليبرالية الغربية والاغراق في محاولة استمداد نفس القيم من الثقافة العربية والاسلامية. ليس الحل هو التفريط المستمر على طول الخط في قيمه ومبادئه والكلام المستمر عن استعداده للتعاون مع الاسلاميين وأنه ليس ضدهم. إن كنت لست ضدهم يا أخي فماذا تريد من العامة؟ اذا لم تستطع أنت ايها المثقف صاحب التعليم العالي والاطلاع الواسع ان تدافع عن افكارك ومبادئك فماذا تنتظر ممن هم أقل منك وعيا وتعليما واطلاعا وثقافة؟
قد ألتمس بعض العذر في صعوبة نشر الليبرالية في المجتمع المصري الآن، الواقع تحت هيمنة التيارات الاصولية. وقد ترجع بعض الصعوبة إلى عدم تعريب مصطلح "الليبرالية"، وارتباطها الدائم باصولها الاجنبية ومرجعيتها الفلسفية التي قد يصعب على عموم الناس استيعابها. لكن أقول أن الثقافة الوهابية هي ايضا ثقافة اجنبية وافدة بل وبعيدة تماما عن الثقافة المصرية، ومع ذلك فانها وجدت من كان لديهم الاصرار والعزيمة لغرسها في هذه التربة التي تختلف تماما عن تربتها الاصلية الصحراوية البدوية. لقد مصرت مصر كل ما امتصته من العرب منذ دخول عمرو بن العاص، وأبت أن تكون نسخة باهتة تلبس رداء غير ردائها. حتى اللغة العربية تم تمصيرها وتطعيمها باللغة المصرية، والتي يعود لها الفضل حتى يومنا هذا في شيوع اللهجة المصرية في المحيط العربي لما تتمتع به من سلاسة وتنوع وجماليات. وحتى يومنا هذا تظل الوهابية بوجهها المظلم القبيح غريبة عن مصر وتجدها عصية على التطويع التام كما حدث في بلدان تعيش في ظل البداوة والقبلية.
لابد ان يعي الليبرالي المصري أنه يقف على قدم سواء مع خصومه من حيث تبني مرجعيات فكرية ذات اصول خارجية. لكن بينما القيم الليبرالية اكتسبت الطابع العالمي من حيث أنها تخاطب قيما انسانية بالاساس، ظلت الوهابية حبيسة انغلاقها وتزمتها، بل ودمويتها ايضا. الليبرالي المصري لابد أن يكون واثق الخطى في معركته النبيلة ضد التطرف والتعصب والانغلاق والتخلف. انهم لا يملكون مفاتيح الجنة والنار، ولا يملكون صك العروبة ولا صك الاسلام. كما أنهم لا يملكون العلم ولا الثقافة ولا الفلسفة ولا المنطق ولا الفن ولا الهوية ولا ادوات العصر ولا التركيبة النفسية أو الذهنية السوية. فشق طريقك للنور يا أخي ولا تدع سخافاتهم وخرافاتهم وامراضهم تنول منك.
لا أجد أي حرج من أن اعلن بكل صراحة ووضوح أنني انتمي فكريا إلى الليبرالية. اتشرف انني ابنة فولتير ومونتسيكيو وولستونكرافت وكانط وآدم سميث، وأجهر بذلك كما يجهرون هم بأنهم ابناء ابن تيمية وابن القيم الجوزية وسيد قطب والشيخ كشك! ادعو إلى التسامح والمساواة والحريات والمواطنة وحقوق الانسان والعلم والابداع والتحديث، كما يدعون هم إلى الحجاب والنقاب وسيادة من ولد مسلما وتفوق الرجل على المرأة والجزية والحرابة ومحاكاة السلف ونبذ التفكير الحر. تحرروا يا ليبراليين قبل أن تدعوا غيركم للتحرر، ولتعبروا عن مبادئكم بصراحة ووضوع. دعوا الافكار تتواجه، فالفكر المتخلف لا يواجهه إلا الفكر المستنير. لن يمكنكم التقدم أي خطوة إلى الأمام بينما انتم مستسلمون للارهاب الاصولي. لن تتمكنوا من التصدي لهم وانتم مقيدون مذعورون تتحاشون الصدام. ثورتكم الحقيقية لابد أن تكون ثورة على النفس تنتصر للقيم الليبرالية والنموذج الحداثي الذي تريدون بناؤه في الواقع. فتَحرروا حتى تُحرروا وطنكم.