لن يتجرأ أحد في هذه الدولة المنكوبة بنخبتها بالأخص من أن يبوح أو يواجه الجماهير الغافلة بما سأواجهكم به. يبدو أن كثرة الانتقاد والاتهامات لي، خاصة في الفترة الاخيرة وأنا اعلن تأييدي الكامل للفريق أحمد شفيق لرئاسة الجمهورية، قد اكسبتني صلابة بعد أن صهرتني في آتون الظلم والافتراء
قرأت الكثير بين سطور النخبة المنافقة والنخبة التي تريد ايصال الحقيقة للناس بالتدريج في جرعات مخففة لن تشفيهم بأي حال مما أصابهم من ضلالات. رأيت النخبة الليبرالية، الاقرب للعقلانية، وهي تحاول امساك العصا من المنتصف لحماية مكاسب زائلة في كل الاحوال
فكرة الكاتب الذي يكتب بهدف ارضاء الجمهور هي تحديدا ما أوصلنا إلى زمن الرخص والهبوط بالذوق العام. لا تتعجب عزيزي المثقف والاكاديمي حين اقول لك أني أراك لا تفرق شيئا عن صناع سينما المقاولات. الاحتكاك المباشر بين المفكر والمتلقي مطلوب، بقدر. لكن كثرة الاحتكاك التي اتاحتها الآن شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة التفاعلية التي تسمح للقارئ بالتعليق على كل ما يقرأه، حتى الاخبار، قد اوقعت المفكرين في فخ الابتزاز والترهيب. لقد تمت السيطرة على النخبة الفكرية لمصر، فكان لابد لمصر التي فقدت عقولها المستنيرة أن تسقط ضحية وتدفع الثمن
رأيت أن أكتب هذا الكلام اليوم تحديدا وقبل اعلان النتيجة النهائية لانتخابات الرئاسة لاعتبارات عديدة لن اخوض فيها، لكن أهمها هو التأكيد أنه حتى في حالة فوز الفريق أحمد شفيق، فالقضية قائمة وملحة بنفس القدر أو أكثر. واراهن انه في حالة فوزه سترتكن الاغلبية الداعمة لمدنية الدولة لحائط حماية هش، ولن تواجه الصراع الذي يهدد أمن مصر وهويتها بالقوة المطلوبة
لن اتحدث عن دور المثقف ورسالته، فهذا موضوع يحتاج لكتاب كامل. وسأكتفي بأن أدعو كل صاحب قلم في هذا البلد لاخضاع ذاته المفكره للتقييم. أرى بين سطوركم يا سادة حمل ثقيل يتراكم بتراكم الأيام، واتمنى أن يكون ذلك بفعل الضمير، وليس فقط الشعور بالفزع والهلع على مكتسباتكم الشخصية ومستقبلكم على القنوات الفضائية، لعنة هذا الزمان
أرجع لموضوعي وهو الشرعية الثورية التي لا يعرف عنها الناس في مصر أي شيء. فكتب التاريخ التي تعلمناها في المدارس مليئة بالكذب ورياء السلطة والشعب العظيم. أي شعب في أي دولة هو شعب عظيم في عيون مواطني تلك الدولة. واستخدام المصطلح في الخطب هو نوع من أنواع الادب المحمود واحترام المخاطب. بينما في كتب التاريخ والمقالات الاكاديمية، مصطلح "الشعب العظيم" هو محض رياء وبعيد تماما عن أي توظيف جاد لا يليق إلا بكاتب ارزقي نصاب
مصر لم تعرف الثورات في تاريخها المعاصر. وثورة يوليو ليست بثورة، بل انقلاب عسكري بقوة السلاح الذي يمتلكه الجيش، تم خلالها احلال نظام ملكي بآخر عسكري، كما تم إجلاء الانجليز عن مصر. لذلك كان من الطبيعي أن تؤسس دولة جديدة وشرعية جديدة. نظام الحكم لم يعد ملكيا، والطبقة الحاكمة تم احلالها بالكامل ونسفها والاستيلاء على ممتلكاتها باسم التأميم. نعم هو استيلاء لأنه لم يتم التحقيق في إذا ما كانت هذه الممتلكات هي حق لأصحابها أم هي فعلا نتاج الاستغلال والسطو. وهذا لا يقلل من احترامي لثورة يوليو ولجوء الثوار لهذا الاسلوب في تمويل خزانة الدولة واقامة شرعية جديدة. فالشرعية لابد لها من آلة اقتصادية، لأن الجائع سيثور على النظام الجديد أيا كان
نأتي لثورة الخامس والعشرين من يناير، وأنا ضد التسمية تماما. فلا هي ثورة ولا هي قامت يوم 25 يناير الذي كان من ممكن أن يمر دون أي أثر في الذاكرة، فما حدث يوم موقعة الجمل يمكن تذكره على عكس هذا اليوم على سبيل المثال. الانتفاضة الشعبية جاءت يوم 28 يناير، وقد أشرت لذلك بالتفصيل في مقال سابق، وما نحن فيه اليوم هو نتاج ما تم يوم الغضب من عنف وعنف مضاد
الانتفاضات تختلف عن الثورات في كونها لا تملك بوصلة للتغيير. هي فعلا حالة غضب عارمة تستنفر الملايين فيخرجون كالنهر الهادر مهددين ومتوعدين السلطة بالعصيان والتمرد، معبرين عن قسوة غضبهم. لم يكن هناك قيادة أو تصور لما هو مطلوب. المطالب جاءت وليدة اللحظة ورد فعل لتطور الاحداث. كاد الميدان أن يخلو بعد خطاب الرئيس السابق الذي وعد فيه بتسليم السلطة في سبتمبر 2011 واعترف بسقوط مشروع التوريث وطالب فيه بمهلة للتحول دون احداث خلل أو فوضى. ثم جائت موقعة الجمل فأججت المشاعر من جديد وشعر الناس بالغدر وأن هذا النظام لا يمكن الوثوق به، ومن ثم تطور المطلب من "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، وهي مطالب اصلاحية وليست ثورية، إلى "إرحل".. مطالبين الرئيس ونظامه بالتخلي الفوري عن السلطة، دون طرح بديل ثوري يتولى هذه المهام أو تصور لنوع التغيير المنهجي المطلوب في النظام الحاكم. فكان من الطبيعي أن يتولى نفس النظام "البائد" احلال نفسه وادراة المرحلة الانتقالية عن طريق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي فوضه الرئيس المتنحي نفسه
من هنا أقول وبكل صراحة.. يا سادة هذه ليست ثورة حتى نؤسس عليها شرعية ثورية!! فلم تكن هناك ثورة. ما حدث بعد هذا كان أمر طبيعي، وهو ادراك الفراغ السياسي الذي احدثته هذه الانتفاضة، ومن ثم انضمام صفوف من نفس النخبة السياسية التي تشكلت على يد النظام السابق لصفوف الثوار باحثة عن دور. كما تدخلت اطراف خارجية لتنجيم الحركات التابعة لها مثل حركة 6 ابريل وابراز دور اعضائها تأهيلا لتصعيد كوادر هي من صنيعة التمويل الخارجي لتقود مصر وتكون ذراع لتلك الانظمة الخارجية. وبينما كان كل ذلك طور التشكيل، لم تكن هناك جماعة منظمة حركيا وسياسيا وايديولوجيا تمتلك آلة اقتصادية حقيقية وجاهزة لحل محل النظام إلا جماعة الاخوان المسلمين، والتي لا ينكر أحد دورها في تلك الانتفاضة، لذلك كان من الطبيعي جدا والمنطقي في حالة اللجوء للصناديق والسعي لاحلال الدور السياسي المهيمن للحزب الوطني ألا يكون هناك بديلا آخر مؤهل لملئ هذا الفراغ. الاخوان لم يسرقوا "الثورة" ولم يركبوها، وهي شهادة حق رغم موقفي المعروف منهم والذي لا يقبل المزايدة. الاخوان هم اختيار الشباب المفلس الذي وجد نفسه في ثورة لم تقم لهدف محدد ولا تملك أي ادوات لاقامة نظام بديل عن النظام الذي اسقطه
بالتالي من يريد اقامة شرعية ثورية فهو يقيم دولة الاخوان.. دولة الخلافة الاسلامية. وخطورة ذلك تكمن فيما نعلمه جميعا عن الاسلام السياسي الراديكالي، وهي تمسكهم بايديولوجيا اصولية لا تقبل التفاوض حولها. مشروع حسن البنا غير قابل للتعديل أو التبديل أو خلق فرص لقوى أخرى للمشاركة فيه. إما الذوبان التام في الجماعة وتعاليمها وإما أن تكون من الخوارج. لا يوجد حل وسط. وما يتم الوعد به من كلام معسول هو من قبيل التقية حتى نزع شوكة الموجة المهيمنة على الخطاب الآن. ونزول جماعات سلفية إلى الساحة السياسية وتكوينها لأحزاب رغم تكفير الديمقراطية وآلياتها هو من باب الضرورات التي تبيح المحظورات. فور تمكن هذا التيار من السلطة، سيسير كل شيء وفق نهجهم. وفي ذلك أيضا لهم برنامج تدريجي، يمتص المعارضة ولا يحيلها إلى صدام. وحتى إن كان الصدام لا مفر منه، ففتاوى شيوخهم جاهزة ونافذة لاهدار الدم
الاصرار على الشرعية الثورية هو اصرار على اسقاط مصر.. هو اصرار على قتل الدولة المصرية والهوية المصرية. لذلك أقولها بكل قوة ولا أخشى شيئا.. تسقط الشرعية الثورية لتحيا مصر