المعارضة : و أنا عاملة نفسي نايمة

المعارضة ليست أن يقف سياسي برم يستعرض امكانيات حنجرته اللولبية ويصرخ في جمهوره "إني اعترض". المعارضة السياسية هي فكر ورؤية تقابل ماهو قائم (الذي تعارضه)، لها توجه واضح واهداف محددة، تعمل على وضع برنامج متكامل له خطوات وآليات من شأنهاتغيير الاوضاع العامة للدولة لما هو أفضل. الخطاب السياسي المعارض يقوم بتسويق تلك الرؤية واقناع القطاعات الشعبية والنخبوية بها وبذلك يحشد كتلة داعمة تقوم بتأييد هذا التيار والدفع في سبيل تمكينه من تطبيق برنامجه عن اقتناع بما يحققه للصالح العام.
أما بعد، فبعيدا عن ما يجب أن يكون، نهبط بسلامة الله إلى أرض الواقع لنتأمل حال المعارضة في مصر. في السابق كانت المعارضة الحنجورية لعقود طويلة تتحجج بتضييق الخناق عليها وعدم اتاحة الفرصة امامها للتواصل مع الجماهير، فحين أن تغير الوضع فجأة وبشكل لم يكن ليتوقعوه رغم انهم واظبوا على اشعال الدنيا صراخا وولولة على تدني الاوضاع وضيق العيش وتغول الفساد إلخ.. انكشف المستور وظهر الافلاس الفعلي لتلك المعارضة الكلامية التي كانت ترجم النظام في كل قرار يتخذه دون تكبد عناء المشاركة في تحمل المسؤولية، فاستكانت إلى ذلك ولم تكلف نفسها مشقة الانخراط في العمل العام أو وضع أي تصورات فعلية لما تُنَظِّر له وتبثه من خلال شعاراتها الرنانة وصحفها الساخطة الناقمة ولقاءاتها التليفزيونية المشتعلة حماسة.
قادت جبهة المعارضة عصابة تعمل من خلال كيان محظور رسميا ناشط فعليا تحت الارض، واعتمدت على صناعة الاكاذيب والتحايل واستبدال خطابها السياسي بخطاب ديني قادر على الحشد في الاوساط البسيطة. كما اعتمدت تلك العصابة اسلوب الرشاوى في الحصول على تأييد الفقراء والمعدمين، خاصة في القرى والنجوع التي لم تطلها يد التحديث وكان نصيبها الاقل في الخدمات. وحتى يتم استثمار تلك الرشاوى في شراء الاصوات استغلوا شعاراتهم الدينية في تغليفها برداء الصدقات والتكافل، مع التأكيد ارتباط مصدرها بهؤلاء الذين يريدون حصد الاصوات في مواسم الانتخابات.
بعد سقوط النظام وانسحاق المعارضة المدنية بجميع تياراتها امام تلك الجماعة المنظمة، ادرك الجميع الحاجة الملحة لخلق كيانات جديدة تقوم على تجميع الكتلة التي تحركت غاضبة في يناير 2011 وقدمت التضحيات ليتم اهمالها بعد اداء دورها في ايصال الاسلاميين للحكم.
حتى الآن فالصورة واعدة ومفعمة بالأمل. لكن.. تزاحم الاطراف الباحثة عن دور في المرحلة الجديدة مع غياب قيادة فكرية للحدث الثوري الذي احدث هذا الفراغ أدى إلى خلق كيانات هشة ممزقة ما بين سياسيين سابقين من محترفي المراوغة والتنقل بين الصفوف، وشخصيات عامة ونشطاء شباب لا توجد لديهم أي خبرة في العمل السياسي، وحركات صغيرة تسعى لتقديم نفسها كممثلين لشباب الثورة مع رفض اتباع أي اتجاه ايديولوجي أو انتماء حزبي وتنحصر مطالبهم في القصاص ومحاربة الاستبداد من دون المساهمة في تحقيق التغيير المنشود.
فماذا حدث؟ تصارع الجميع على بادج الثورة باعتبارها الماركة المضمونة لتسويق من يحل محل النظام القديم، وفي سبيل ذلك علت نبرة الاستقطاب والتركيز على اقصاء "الفلول" والتطهير بالاقصاء والعمل على شيطنة كل ما له علاقة بالماضي. وأما عن منافسيهم الاسلاميين فقد ارتضوا دخول ساحة المزايدة واللعب بقواعدهم، فزايدوا عليهم في تمسكهم بتطبيق الشريعة، وزايدوا عليهم في خصومة النظام السابق مع أن معظم نخبهم كانت تربطهم علاقات قوية بهذا النظام، وخاضوا مع الاسلاميين معركة اضعاف المجلس العسكري الذي قاد المرحلة الانتقالية بشكل سيء وعشوائي في ظل تنكر جميع الاطراف له وعزوفهم عن التعاون معه في ادارة تلك المرحلة شديدة الخطورة والحساسية، حتى اضطر للتفاهم مع الفصيل البرجماتي الوحيد الذي ابدى نية للتفاوض واستعرض قدرته على التحكم في ايقاع الشارع في سبيل استيلاءه على البرلمان.
بالطبع كانت النتيجة هي اخفاق التيار المدني المتعلق بطرف جلباب الاسلاميين للوصول للسلطة، فما الداعي لدى الناخب لترك الاصلي واختيار التايواني؟ كما أن التيار المدني قدم أكبر دعم ممكن للاسلاميين في تأكيد انهم يستحقون بادج الثورة وأنهم فصيل وطني يمكن الوثوق به في تحقيق اهداف الثورة التي شاركوا فيها لاهدافهم الخاصة. وبعد طول رجاء واستجداء تنكر الاسلاميون لكل هؤلاء وانتقلوا على الفور نحو الاستيلاء الكامل على الحكم وبسط الهيمنة على الدولة بكل مؤسساتها.
عاد من عاد يبدي الندم ويدعي انه كان ضحية خدعة ما، ليتحول المطرودين من جنة الكعكة الثورية إلى معارضين لزملاء الامس القريب.
ادرك كل المهزومين أن أملهم الوحيد هو التحالف في وجه هذا الاخطبوط، ولكن تحالف على أي اساس؟ الثورة؟ ما هي الثورة؟ عاد الافلاس ليظهر جليا ويعلن بوضوح عن قصور بالغ في الرؤية وغياب الاهداف وجدوى المواجهة. وبدلا من تدارك تلك الأزمة والعمل على اعادة ترتيب الاوراق، وقع من وقع في أسر حلم الزعامة ولو بدون اساس. واعتمدوا نفس الاساليب الرخيصة في مداعبة طموح الناس والعزف على وتر آلامهم واستغلال حتى يأسهم من وجود بديل في محاولة بائسة لاصطناع قيادة من لا شيء للا شيء.
تتم دعوة الجماهير الساخطة للتظاهر والاحتجاج دون تقديم اهداف أو تصور للتحرك أو تحديد للمطالب. ماذا بعد التظاهر؟ هل هو ضغط مدروس للوصول إلى التفاوض؟ هل هو اصرار على تحقيق مكاسب ما والاتجاه نحو التصعيد في سبيل ذلك؟ لقد أكدوا على اعترافهم بشرعية النظام القائم رغم كل ما يطعن في تلك الشرعية، متراجعين عن حديثهم السابق عن تآكلها وأنها على المحك. إذن فلا نية لاسقاط النظام مع فرض حالة من الغموض حول الغرض المرجو من التظاهر. ومع تكرار المصادمات ووقوع ضحايا تضيع التضحيات هباء. ويصل التخبط إلى مدى يرسخ عدم جدية المعارضة ويقلص من قيمتها ويقضي على تأثيرها.
قاد الشباب المصري مبادرة التعبير عن غضبه في ذكرى قيام الثورة، وكالعادة انضمت المعارضة متأخرة، لا لتقود وتوجه وتعبر عن مطالب تلك الجموع، بل لتشارك وتثبت تواجدها. ومع تزايد الاحساس بالضعف لجأ بعض الشباب المحبط لتبني اسلوب العنف لمحاولة حث المعارضة على اتخاذ مواقف اكثر ايجابية وترجمة هذا الغضب الشعبي إلى فعل سياسي، ولكن تقف المعارضة متفرجة تدين العنف وكأنها لا تعي سببه وتترك الشباب ليلاقي مصيره سواء كان متظاهرا سلميا أو غير ذلك. تهرب المعارضة من تحمل مسؤوليتها رغم أنها تعي تماما الدور المطلوب منها في تلك المرحلة. تترك العنان للفوضى والعشوائية وتدير ظهرها لما من شأنه توريطها في مواجهة اعبائها، لتكتفي بالشعارات والتصريحات والخطب المفرغة من المضمون، تبحث عن أي وسيلة سهلة تضمن استمرارها بتغيير اسماء كياناتها والتنقل بينها وانشاء تحالفات وهمية وهي تمسك جزرة الأمل وتلوح ببادج الثورة، فإن أتت لحظة ترجمة ذلك فعليا على أرض الواقع تتعامل باسلوب "وأنا عاملة نفسي نايمة".