ما شعورك عندما تقرأ كتابًا يؤرخ 18 يومًا كاملين من أحداث الثورة المصرية؟ لقد كنت مذهولة أنني أقرأ أحداث أيام عشتها بكل انتباهٍ وفرحة وفخر وقعت منذ 3 سنواتٍ فقط! 3 سنوات فقط مرت؟! كيف ذلك؟ وكيف تغيرت الحياة منذ تلك اللحظات حتى يومنا هذا؟ كم تغيرت أنا؟! كم تغيرت أفكاري وآرائي؟! أنا التي كنت أتعمد اللامبالاة والسلبية على أي حدثٍ/حديث سياسي وأنفر منه فرار السليم من مرض الجذام! أنا مَنْ كنت أنهر مَنْ يعمل بالسياسة ويخوض فيها وأرجوه أن يترك ذلك الميدان القذر؟! أهذه أنا؟! أهذه أنا التي كنت أجلس على مائدة بعض رجال وسيدات الأعمال يوم 24 يناير 2011 –قبل الثورة بيوم واحد- أسمعهم متخوفين على أعمالهم مما سيحدث غدًا، وبيني وبين نفسي أقول ما هذا الذي يخافون منه؟ الأمر لن يتعدى بعض المظاهرات كتلك التي تعودنا رؤيتها عند سلالم نقابة الصحفيين ودار القضاء العالي وأمام مجلس الشورى. ما الذي حدث وجعل حواسي تستيقظ فجأة بعد أن كنت قد أعطيتها أمرًا بتجاهل ما يحدث، اقتناعًا مني أن التغيير يجب أن يكون مجتمعيًا حتى ينعكس على السياسة بعد ذلك، لا العكس.
لحظة فاصلة.. لحظة نقلتني من اللامبالاة والسلبية المتعمدة إلى التجاوب التام مع ما يحدث.. كانت يوم الجمعة 28 يناير 2013 بعد صلاة الجمعة عندما سمعت أصواتًا تهتف بشدة وبقوة.. خرجت إلى الشرفة فإذا بي أجد تظاهرة لمجموعة من الأشخاص رجال وشباب ونساء وبنات بل وحتى أطفال كلهم يهتفون "إرحل" هتافًا زلزل كياني رُغم أنها ليست المرة الأولى التي أرى فيها مظاهرة!
ذُهلت من الأبطال الذين كسروا حاجز الخوف ونزلوا إلى الشوارع يهتفون ضد نظام أمني قمعي لطالما سمعنا عما يقوم به من تعذيب في سجون أمن الدولة الكيان الأسطوري المرعب.. كان يكفي ذكر اسم "أمن الدولة" حتى تجعل من أمامك يرتعد ويريد الدخول "جوا الحيط" وليس أن يمشي بجانبه فقط!
عندما أتفكر في هذه اللحظة التي استولت على كياني حتى يومنا هذا، أعتقد أن ما جعلني أؤمن بالثورة هو نزول أشخاص عاديين للمظاهرات، ليسوا هؤلاء الذين كنت أراهم على سلالم دار القضاء العالي.. إنهم يختلفون عنهم في أنهم غير مسيّسين وليسوا من الوجوه التي تبحث عن الشهرة. ولأول مرة أشعر أن هناك إمكانية لإحداث تغيير من خلال ميدان السياسة!
ولأن هذه الثورة على الطغيان والظلم ظُلِمت من بعض مَنْ ادعوا مناصرتها والعمل على تحقيق أهدافها، ولأن المشهد الإعلامي المزيف للحقائق في كثير من الأحيان هو ما يُصَّدر إلى الجالسين في البيوت وباقي دول العالم، ولأن الطامعين في السلطة المحبين للأضواء والشهرة ادَّعوا بطولة قد لا تتعدى حقيقتها 10% من الواقع، كان لزامًا على كل مَنْ يؤمن بمحاربة الظلم البحث عن جوانب من الحقيقة –لأن من يعرف الحقيقة المطلقة هو عالم الغيب فقط ولا يمكن لبشر مهما كانت قدراته أن يُجزم بمعرفة شيء بنسبة 100%- خاصة في ظل الأحداث الحالية التي تسعى لتشتيت الانتباه عن الأزمات الخارجية التي تُخطط لمصر والتي يستجيب لها البعض بكل سذاجة للأسف، وفي ظل تصاعد بعض الهتافات والادعاءات بعودة مبارك وإطلاق وصف "نكسة" على ثورة 25 يناير وتراجع الكثير عن الإيمان بأهميتها بل ونشر اليأس المطلق.. لهذا أرشح لكم كتاب "الثورة المصرية الكبرى" للكاتب الصحفي والمحلل السياسي إيهاب عمر الذي نزل إلى الشارع وتحدث مع أطياف مختلفة من الشعب –السياسيين منهم وغير السياسيين- ولم يكتفِ بالجلوس أمام شاشات التلفزيون لتسجيل وتأريخ أحداث الثمانية عشر يومًا من أعظم ما مرت به الدولة المصرية.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أبواب؛ الجزء الأول عن الأسباب التي أدت إلى سقوط النظام، وشرحها الكاتب بالتفصيل مؤكدًا على أن الثورة قامت ليست لأسباب اقتصادية فقط ولكن للجمود السياسي الذي أصاب التيار الحكومي والمعارض، فالغني والفقير والطبقة المتوسطة كانوا مشاركين رئيسيين في الثورة. ثم يستفيض الكاتب في فصل شديد الأهمية بعنوان "صناعة الثورة" مبينًا فيها أن ادعاء بعض الصفحات على الفيس بوك والحركات السياسية بأنها هي مَنْ دعت للتظاهر وقادته هو ادعاء باطل؛ ففكرة التظاهر قد سُرقت من الشارع الذي سبق النخب الفكرية والسياسية المعارضة بكثير وأظهر وعيًا لم يوجد مثيله لديهم، حيث دعى إلى التظاهر فور نجاح الثورة التونسية. ويؤكد الكاتب أن الثورة الشعبية –كما اسمها- هي من صناعة الشعب وأن مَنْ يدعي صناعتها فذلك يعد سرقة لها.
ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث عن موضوع بالغ الأهمية وهو أن الكثير من أحزاب وحركات وأفراد المعارضة المصرية كانت جزءًا من الفساد؛ بداية من مؤسسات المجتمع المدني التي ذُكر صراحة أنها تتلقى أموالاً من واشنطن في وثائق ويكيليكس المسربة، وعلاقة بعض النشطاء المصريين بمؤسسات أمريكية وما هي هذه المؤسسات ومَنْ يعمل بها، ثم يطرح سؤالاً في غاية الخطورة لأنه قد قيل بالفعل وهو هل صنعت أمريكا ثورة 25 يناير؟ بالتأكيد- يجيب الكاتب- بالنفي فقد ذكر علاقة بعض النشطاء وأحزاب وحركات المعارضة بمؤسسات أمريكية بالتفصيل للكشف عن كواليسها وزيف ادعاءاتها ولكن الصانع الحقيقي للثورة المصرية هم الشعب الذي خرج إلى الشوارع بعد أن طفح به الكيل من الفساد والفقر والظلم والتجاهل.
ثم يُنهي الكاتب الباب الأول بالحديث عن الجيش قبل 25 يناير وكيف أنه رفض التورط في إرسال قواته للقتال إلى جانب صفوف الجيش الأمريكي في العراق، كما رفض المطلب الأمريكي بـ "تطوير الجيش المصري" الذي يعني إيقاف التدريب والتسليح والاكتفاء بتأمين الحدود ومنع تهريب السلاح! كما كان رافضًا أيضًا للتوريث والخصخصة، ورُغم ذلك لم ينفذ الجيش "انقلابًا عسكريًا" في ذلك الوقت لأن ذلك كان سيؤدي إلى مذبحة، حيث تتضمن أجهزة الأمن الداخلي ما يقرب من 3 مليون عنصر، بينما عدد أفراد القوات المسلحة المصرية لا يزيد عن نصف مليون، كما أن ذلك كان سيؤدي بمصر إلى خطر العقوبات الدولية.
وإلى الباب الثاني "يوميات الثورة" التي تؤرخ كل يوم من أيام الثمانية عشر يومًا، وتذكرك بأن ما نزلت من أجله ودافعت عنه لم يكن عبثًا، بل واجبًا تجاه وطنك ونفسك وأولادك. فلم تنتفض القاهرة وحدها، بل انتفضت معها كافة المحافظات والمدن المصرية على نحوٍ غير مسبوق وتوحدت الصرخة والمشاعر والتحم الشعب من جديد مع بعضه ليستعيد وطنه وكبريائه وكرامته، وأربك الحسابات الأمريكية التي لم تعدّ لهذه اللحظة وجعلها تدرك أن الشعب المصري وإن طال به الظلم فلن يستطيع أن يُركِعه أحد.
وفي الباب الثالث "ما بعد الطوفان"، يذكر الكاتب أن المشير طنطاوي لم يكن الرجل الذي تفضله واشنطن وتل أبيب لحكم مصر؛ فقد كان المقدم حسين طنطاوي قائد الكتيبة 16 أثناء حرب أكتوبر مقاتلاً من طراز رفيع نفذ فكرًا عسكريًا جديدًا من خلال معركة المزرعة الصينية التي نجحت على المستوى التكتيكي والنفسي أثناء الحرب، ودُرِّست فيما بعد في الكليات والمعاهد العسكرية. وأن طنطاوي لم يكن بالفساد الذي حاولت بعض الأقلام وصفه، بل تحسنت علاقة مصر بدول حوض النيل وتم التعامل مع أمريكا وإسرائيل في إطار الحجم الطبيعي في عهده.
ومن فصل عن الماسونية التي كانت تهمة جاهزة أُلصقت بالثوار وعدم ثبوت تلقي طرف لأموال أو دعم سياسي من دوائر ماسونية خارجية، إلى فصل جميل بعنوان "يا عزيزي كلنا حسني مبارك" وأقتبس منها:
"هل تعرف أن الثورة المصرية كانت قادرة على صنع ما هو أكبر من كل ما جرى؟ كان يمكن ذلك لو قام كل مصري بالمشاركة في الثورة الحقيقية، ثورة الأخلاق، كان يمكن أن يحدث لو كان كل فرد منا ثار على القيم السلبية الموجودة بداخله.. القيم التي تعلمناها في مدارس وجامعات نظام حسني مبارك. كان يمكن أن نحصد إنجازات أعظم من كل هذا لو طرد كل إنسان منا النسخة المصغرة من حسني مبارك ونظامه التي بداخلنا.تعالى نرصد كم حسني مبارك كان موجودًا بيننا في ميدان التحرير..شاب عارض الدعوة للتظاهر بل وسخر منها، وكانت سخريته الدائمة بالقول أن المصريين أضعف من هذا والمصريين غير قادرين على هذا، إلى آخر أسطوانات ضع مصر في جملة مفيدة، ثم فيما بعد أصبح لا يكلّ ولا يملّ عن التنظير والصراخ باسم الشهداء والمتاجرة بهم.. أليست هذه أخلاق نظام حسني مبارك؟![...] الذين ذهبوا إلى الميدان بنظام الشلة سوف تخرج إلى أين اليوم ووقفوا في الميدان لا يشاركون في الهتاف أو الاعتصام.. أليست هذه أخلاق نظام حسني مبارك؟![...] حسني مبارك اليوم هو أحزاب جديدة وحركات شبابية جديدة.. هو أقلام وأفلام وصحف جديدة.. هو شخصيات ظهرت وأكدت أنها مَنْ صنعت الثورة.لقد كان معنا في ميدان التحرير منذ البداية!"
وعن محاولات تخريب المشهد المصري الجديد، يكتب الأستاذ إيهاب عمر في الباب الرابع والأخير "نهاية النظام" عن محاولة الوقيعة بين الجيش والشعب التي بدأت بجمعة 8 أبريل 2011 (جمعة التطهير) وما بعدها وجرى فيها إظهار الجيش يقتل الثوار، حيث دفع فلول النظام السابق ضباطًا -قد جرى فصلهم قبل 25 يناير 2011 لأنهم تزوجوا من أجنبيات وهذا ممنوع في الجيش- إلى تصوير فيديوهات "من الخارج" لاستمالة الثوار إلى جانبهم بدعوى أنهم قد ""انشقوا"" اعتراضًا على فساد القيادات بالجيش وذهب جنود للميدان زعموا أنهم يريدون حماية الثوار لهم في ميدان التحرير وجعلوهم يعتصمون لأجلهم، في محاولة لتصوير "تمرد داخل الجيش" أمام العالم. انضم لهذا الاعتصام بعض الثوار –الذين ما أن علموا بحقيقة الأمر انسحبوا- والكثير من البلطجية الذين كانوا ينتظرون لحظة فض الاعتصام ليهجموا على الجيش وقد حدث وتم تصوير الحدث على أنه اعتداء من الجيش على الثوار!!
ومن النقاط التي تناولها الكاتب أيضًا ولا زالت تثير جدلاً حتى الآن هو أن المادة الثانية بالدستور كانت موجودة منذ دستور 1923 الليبرالي وهي مجرد مادة بروتوكولية الغرض منها إبراز ارتباط مصر بالدائرة العربية والإسلامية. وحتى مع دستور 1971 الذي ضم هذه المادة، لم يحدث تحويل الدولة إلى دولة دينية. ولكن في الوقت ذاته، يؤكد الكاتب أن إلغاء المادة الثانية هو مطلب القوى السياسية التي تستقوى بالخارج وتمت صياغة هذا المطلب خارج مصر لحذف أي إشارة إلى الهوية الإسلامية لمصر.
كان ذلك استعراضًا سريعًا للكتاب، ولكنه مخلّ، لما يحتويه من معلومات ثريّة لا يمكن اختصارها أو تجاوز الحديث عنها. وأخيرًا، لا تكمن أهمية الكتاب في مجرد تأريخ لأحداث عشناها وتابعناها وإن كانت بعض تفاصيلها غائبة عنا، ولكن أيضًا في كونها البداية الجديدة التي ترتبت عليها -ولا تزال- ما تلاها من أحداث. فمنه تعرف خلفية البطولات المزعومة ومحاولات ركوب الثورة ورفض الحكم العسكري -اتفقنا أو اختلفنا عليه- خلال المرحلة الانتقالية والذي أعاده البعض ثانية الآن إلى الساحة السياسية بعد سقوط النظام السياسي للأخوان المسلمين.