عن وجود الآلهة نتحدث: هل لا يوجد سوى 4 بدائل (اسلام ، مسيحية ، لاأدرية ، إلحاد ) ؟!

لاحظت من تعليقات الكثيرين سواء على صفحاتهم الخاصة أو فى المجموعات النقاشية سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو لادينيين أن هناك اعتقاد شبه سائد بأن الموقف من وجود الآلهة لابد أن يكون واحدا من أربعة ( اما أن تكون مسلما  أو مسيحيا أو لاأدريا أو ملحدا ) و كأن 10 آلاف عام من الحضارة البشرية لم ينتج عنها هذه الفلسفات الأربعة فقط لاغير  ، فأحببت أن ألفت النظر إلى مواقف فكرية أخرى من هذه القضية أكثر ثراءا بمراحل من النظرة التقليدية .

بداية لابد من وضع تعريف واضح لمفهوم "الإله" و هذه مهمة صعبة للغاية لأن وجهات النظر مختلفة بشدة حول ماهية هذا المفهوم ، و لكن اذا أردنا استعمال أبسط التعريفات على الاطلاق فسيكون كالتالى " قوة ماورائية واعية خالقة للكون أزلية و واجبة الوجود " - مذهب وحدة الوجود يختلف عن هذا التعريف فى أن الله و الكون ( اجمالى الوجود )  هما نفس الشىء .

* المواقف الستة الرئيسية من وجود الإله  :

1-   الإله الشخصى - الالوهية Theism :

الايمان بوجود اله  - أو آلهة - خالق للكون و يتدخل فى شئونه و بخاصة شئون الجنس البشرى عن طريق وضع قواعد أخلاقية و ما إلى ذلك . الاله هنا كائن كامل القدرة و المعرفة و الأخلاق و الارادة  ،   و هو في  نفس الوقت شخص يمتلك خصائص شخصية بشرية مثل  الحب و الكره و الغضب و الانتقام و الرحمة  . و فى معظم الديانات المنظمة التى تأخذ هذا الموقف الفكرى يوجد هناك حياة أخرى بعد الموت (جنة و نار ) يثيب و يعاقب فيها هذا الاله الشخصى الجنس البشرى

تنقسم الالوهية الى قسمين :

# تعدد الآلهة Polytheism :
و هى الايمان بوجود أكثر من اله شخصى لكل منهم وظيفته الخاصة ، هذا الاعتقاد كان السائد فى كل المجتمعات البشرية تقريبا قبل ظهور الأديان التوحيدية .
الحضارة السومرية ، الحضارة المصرية القديمة /الفرعونية ، ، الحضارة البابلية ، الحضارة الفينيقية ، الحضارة الفارسية ، الحضارة الاغريقية  ، الحضارة الرومانية ...الخ، و كذلك الديانة الهندوسية فى الوقت الحالى و  التى يبلغ عدد معتنقيها حوالى مليار شخص


 # Monotheism الاله الواحد :
و هى الايمان بوجود اله شخصى واحد خالق للكون و منظمه 
بعض الآراء ترجع بداية الفكر التوحيدى الى الفرعون المصرى (اخناتون) ، و لكن على أى حال هناك عدد لابأس به من الديانات التوحيدية لعل أقدمها الديانة الزرادشتية فى بلاد فارس قبل حوالى 3500 سنة ، و الأديان الابراهيمية  ( اليهودية ، المسيحية ، الاسلام ، البهائية ) - طبعا حقيقة أن المجوس الكفرة هم أقدم ديانة توحيدية لن تعجب الكثيرين من المسلمين و المسيحيين ( أهورامازدا أقدم  بكثير من الله أو يسوع المسيح -  ، و الواقع أنه لا يوجد أى اختلاف جذرى بين الاسلام و المسيحية يبرر هذا التاريخ الدموى خلال الصراع بينهما فالديانتان نفس الفكر تقريبا .

لعل أشهر العلماء الذين آمنوا بوجود اله شخصى هو  (السير اسحق نيوتن)  ، مؤسس الفيزياء الحديثة و أحد أعظم علماء التاريخ الذى كتب فى اللاهوت المسيحى أكثر مما كتب فى علم الفيزياء !  ، أو (محمد بن موسى الخوارزمى ) عالم الرياضيات الأشهر و مؤسس علم الجبر 

2- Deism الربوبية :

الاعتقاد بوجود خالق أعظم للكون عن طريق اعمال العقل و ملاحظة العالم الطبيعى و ليس عن طريق الوحى أو النص المقدس . الربوبيون يرفضون فكرة الاله الشخصى الذى يتدخل فى أمور البشر و يرسل الأنبياء و يصنع المعجزات التى تكسر قوانين الطبيعة و يعاقب البشر فى الحياة الأخرى بالجحيم ...الخ . و يرون أفكار مثل (النبوة أو  الثواب و العقاب فى عالم أخر بعد الموت) سخيفة فبالنسبة لهم  الاله اقتصرت وظيفته على خلق القوانين الفيزيائية الرئيسية التى تحكم الكون و من ثم ترك الكون و ما بداخله ليتطور طبيعيا بدون أى تدخل الهى

الربوبية كانت المذهب السائد فى الأوساط المثقفة الأوروبية ابان عصر التنوير و العلمنة . فمعظم فلاسفة عصر التنوير كانوا ربوبيين مثل ( فولتير ، جان جاك روسو ) و كذلك الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية ( بنجامين فرانكلين ، الكسندر هاميلتون ، توماس جيفرسون ، توماس بين ، جيمس ماديسون ) ..تاريخيا الثورتان الفرنسية  1789 و الأمريكية 1776 اللتان صنعتا العصور الحديثة فى أوروبا و العالم هما الى حد ما نتاج انتشار الفكر الربوبى فى تلك الحقبة الزمنية .


3- Pantheism وحدة الوجود :

و هى الاعتقاد بأن الاله و الكون المادى هما نفس الشىء ، لايوجد أى كيان ميتافيزيقى هنا فالكون بكل محتوياته من نجوم أو كواكب أو بشر هو الاله فى حد ذاته .
هذا الاعتقاد يتركز فى  فلسفات الشرق الأقصى و الهند مثل الطاوية و البوذية و بعض مذاهب الهندوسية ،
أشهر الفلاسفة الذين تبنوا هذا التصور هو (اسبينوزا) ، و آراء عالم الفيزياء النظرية الأشهر ( ألبرت أينشتاين ) جعلت الكثيرين يضعونه تحت هذا التصنيف


4- Apatheism :


الاعتقاد بأن الانشغال بقضية وجود الآلهة من عدمها بلا جدوى بالنسبة له على صعيد حياته الشخصية
 الشخص هنا لا ينفى أو يثبت وجود الآلهة   ، و لكنه ببساطة شديدة غير مهتم  بالموضوع على الاطلاق  كما أن الأشخاص الذين لا يهتمون بكرة القدم ، لا يعنيهم فى شىء بطولة كأس العالم للمنتخبات الوطنية .



5 -  Agnosticism اللأدرية :

الاعتقاد بأن  الأسئلة المتعلقة بالقضايا الغيبية مثل وجود الاله و أصل الكون لا سبيل لمعرفة اجابة يقينية بصددها .اى أنه لا يمكن
اثبات وجود اله من أى نوع  ولكن في نفس الوقت لا توجد طريقة لاثبات عدم وجودها ، مما يعنى رفض كلا الموقفين الالوهى و الالحادى فى آن واحد .

هذا الموقف تبناه عدد كبير جدا من المفكرين و الفلاسفة و العلماء مثل أعظم علماء البيولوجى قاطبة ( تشارلز داروين ) صاحب نظرية التطور و كتاب أصل الأنواع ، و العالمة الحاصلة على نوبل مرتين فى الفيزياء و الكيمياء (مارى كورى ) ، و عالم الفيزياء الفلكية  ( كارل ساجان )  ، و الملياردير الأمريكى الأشهر ( وارين بافت


6- Atheismاللاربوبية / اللاالوهية


هذا الموقف الفكرى يعرف فى العالم الناطق باللغة العربية باسم "الالحاد " و لكن هذه ترجمة خاطئة للمصطلح
  هذا الموقف الفكرى ينفى وجود اى اله بالمطلق استنادا الى حجج منطقية و علمية مثل حجة التعقيد و موس أوكام ، و معظم الملحدين ينفون وجود العالم الميتافيزيقى بالكامل ( آلهة ، شياطين ،  أرواح ...الخ ) فلا يوجد سوى العالم
الطبيعى الفيزيائى فحسب طبقا لتصوراتهم

هناك عدد كبير للغاية من العلماء و الفلاسفة و المخترعين الملحدين مثل  : برتراند راسل  ، توماس اديسون  ، ستيفن هوكنغ ، ريتشارد فاينمان "نوبل فى الفيزياء"   ، آلان تورينغ  " أبو الحاسب الآلى " ، ستيفن واينبرغ  "نوبل فى الفيزياء  ،  جيمس واطسون  " مكتشف تركيب الدى ان ايه " ،  بول ديراك " نوبل فى الفيزياء "  ، مارك زوكربيرغ " مؤسس الفيسبوك "  ، سيرجى برين و لارى بايج " مؤسسى محرك البحث الشهير ( جوجل )  "  ..الخ.
و القائمة طويلة جدا

* هناك مواقف كثيرة أخرى بالطبع من قضية وجود الآلهة مع وجود آلاف الفلسفات و  الاديان التى اخترعها العقل البشرى فى ال10 آلاف عاما الأخيرة منذ بداية الحضارة الانسانية ، و لكن  هذه المواقف الستة هى المواقف الرئيسية تقريبا 

مما سبق نرى أن هناك حيز كبير جدا من المواقف الفكرية المختلفة المتعلقة بهذه القضية ، و يصبح من السخافة بمكان جعل هذه القضية تحديدا تبدو و كأنها مثلا الاسلام فى مواجهة الالحاد أو المسيحية فى مواجهة اللاأدرية  ..فهناك منطقة رمادية واسعة جدا فى المنتصف عاش فيها مليارات البشر الأخرون

..انتهى ..